«سألته: والأرض؟ قال: لا أعرفها.
ولا أحس أنها جلدي ونبضي».

(من قصيدة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» التي يتحدث فيها درويش عن علاقة اليهودي بالأرض



يقوم الاستعمار الاستيطاني على فكرة إفراغ الأرض من سكانها الأصليين وإسكان مستوطنين غرباء مكانهم. لذلك سعى المشروع الصهيوني إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، عبر القوة المفرطة وارتكاب المجازر كما حصل عام 1948 (النكبة). وعبر احتلاله لبقية فلسطين عام 1967، وظّف «فضفاضية» القوانين، سواء الدولية أو التي كان معمولاً بها قبل الاحتلال مثل القانونين الأردني والعثماني، لتحقيق المصالح الصهيونية المتمثلة بطرد الفلسطينيين وسرقة أراضيهم، بالحجج الأمنية والدواعي العسكرية والحروب الوقائية.

مأسسة المستعمرة: سرقة الأرض
منذ تحوّل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني إلى دولة «إسرائيل» على دماء الفلسطينيين الذين اقتُلعوا من أراضيهم في فلسطين التاريخية، ومع اعتراف المجتمع الدولي بالمستعمرة المنشأة حديثاً، باتت سرقة إسرائيل للأراضي التي وضعت يدها عليها «قانونية».
في 8 تموز 1967، مع احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وإخضاعهما للحكم العسكري الذي يُعرف دولياً بـ«الاستيلاء الاحتلالي» (belligerent occupation)، ويشترط: أن يكون وضع اليد على أراضي الفلسطينيين مؤقتاً ويُستخدم فقط لغرض عسكري مستعجل، وأن يكون الضرر الحاصل من وضع اليد على الأرض متناسباً مع فائدته الأمنية، وتعويض أصحاب الأرض عن الضرر اللاحق بهم نتيجة عدم قدرتهم على الترزّق منها ما دام وضع اليد مستمراً، وأن يعيد الجيش الأرض إلى أصحابها بعد انتهاء استعمالها.
وظّفت المنظومة القانونية للاحتلال الإسرائيلي قانون أملاك الغائبين لسنة 1950، ولاحقاً قانون استملاك الأراضي لسنة 1953، لانتزاع الأراضي وملكيتها من اللاجئين استناداً إلى غيابهم عن البلاد بعد 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947.


وباتت الطريقة المركزية للاستيلاء على الأراضي عبر الإعلان عنها «أراضي دولة» وتسجيلها، وهو ما بُدئ العمل به عام 1979، واستند إلى تطبيق قانون الأراضي العثماني لعام 1858 الذي كان ساري المفعول عشية الاحتلال.
وتحظر معاهدة جنيف الرابعة لسنة 1940 (المادة 53) على دولة الاحتلال تدمير أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير.
وتشير المادة (49) من اتفاقية جنيف لسنة 1949 إلى أنه «لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها».
إلا أن الاحتلال ينتقي من اتفاقيات جنيف ما يتماشى مع مصالحه، ويتحايل على أخرى. فالمؤقتية والمقتضيات الحربية التي تتيحها الاتفاقية، تفترض أن الاحتلال سيكون مؤقتاً. ولفت البروفيسور ريتشارد فولك إلى أن اتفاقيات جنيف تفترض أن المؤقتية تنتهي بانتهاء الحرب، ولكن استمرارها لأكثر من خمسين عاماً أدى إلى عدم فاعلية هذه الاتفاقية في حماية المدنيين بالشكل الكافي، إذ إن الحالة أصبحت عبارة عن نظام مستمر بدلاً من احتلال.

توظيف الأمن للاستيطان
طرق أخرى اتّبعتها اسرائيل للاستيلاء على الأراضي مستندةً إلى القضاء، كالإعلان عن «مناطق عسكرية» أو «ممتلكات متروكة» او مصادرة أراض لاحتياجات جماهيرية، كما ساعدت إسرائيل أفراداً على شراء أراض في السوق الحرة.
في حالة «الاحتياجات الجماهيرية»، إذ يوظّف الاحتلال الجماهيرية لمصادرة الأراضي خدمة للمستوطنين بصفتهم مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية، على حساب السكان الأصليين الفلسطينيين الذين لا يتمتعون بصفة جماهير بحكم حملهم للجنسية الفلسطينية.
عملت حكومات الاحتلال، في العقد الأول للاحتلال بموجب «خطة ألون» التي توصي ببناء مستوطنات في مناطق ذات «أهمية أمنية» وكثافة سكانية فلسطينية منخفضة، مثل غور الأردن، وأجزاء من جبال الخليل، والقدس وضواحيها. هذه السياسة تنبع من دوافع أمنية وأيديولوجية معاً.
كتب الحاكم العسكري في الضفة الغربية الجنرال شلوم غازيت رسالة صُنفت «سرية»، في 15 تموز/يوليو 1970، عنوانها «طريقة كريات أربع»، يطالب بالتستر على نية الحكومة بناء 250 وحدة سكنية في المستوطنة الجديدة، وتقديمها على أنها بناء لأهداف عسكرية (وتُفهم ضمناً أنها مؤقتة). وبالفعل بعد يومين، استولى الجيش على 200 دونم من الأراضي.
في 25 شباط/ فبراير 1980، نشر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية يتسحاك زمير أن «المستوطنات محمية من الإخلاء ما دام الاعتبار الأساسي في إقامتها عسكرياً أمنياً بالمعنى الأشمل»، أي أنه يأخذ في الحسبان ليس فقط احتياجات الجيش بل «الحفاظ على الأمن الداخلي» و«حماية الحيز».
كثفت اتفاقية أوسلو من عملية سرقة الأراضي بعد تقسيم الضفة إلى مناطق (أ، ب، ج)، وكانت حصة المنطقة (ج) هي الأكبر بما يعادل 61% من مساحة الضفة، وتخضع أمنياً لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، حيث كثّف الاحتلال من سياساته الموزعة بين «وضع اليد» أو «أراضي دولة» أو تصنيف أراض بأنها مناطق عسكرية مغلقة أو مناطق تدريب أو إطلاق نار، وغيرها من الدواعي العسكرية.
يحظر القانون الدولي على الجيش الإسرائيلي بوصفه قوة محتلة إغلاق أي مناطق ومنع دخول الناس إلى أراضيهم، فيما يغلق الجيش بعض المناطق في الضفة الغربية بذريعة تدريب عناصره في المناطق التي تجري عملياته فيها للحفاظ على الجهوزية القتالية لدى عناصره. إلا أن مؤسسة كرم نابوت كشفت من خلال صور جوية أن عدداً كبيراً من هذه المناطق يسكنها مستوطنون.
الأغراض العسكرية والمنظومة القانونية لا تترك موضع قدم للفلسطينيين، وتستغل أي ثغرة قانونية لسرقة الأرض، وتتذرع بالدواعي الأمنية والعسكرية. ولا يمضي كثير من الوقت، حتى يتبين أن الغرض الأساسي من مصادرة الأراضي هو بناء مستوطنات. وتؤكد الأرقام أن 47% من الأراضي الخاضعة اليوم لوضع يد عسكري تخدم مباشرة أغراض جمهور المستوطنين وليس أغراض الجيش، وأقيمت فيها 12 مستوطنة.
ويلزم القانون الدولي «إسرائيل» بدفع تعويض رسمي للفسطينيين الذين يتم وضع اليد على أراضيهم، إلا أن أرقام وزارة الأمن مثيرة للسخرية مقارنةً بحجم الأراضي التي يتم وضع اليد عليها.

سرقة الأرض كإجراء عقابي
عندما ثار الفلسطينيون في الانتفاضة الثانية (2000 - 2005)، شرع الاحتلال في مصادرة أراضي الفلسطينيين بحجة بناء جدار الفصل العنصري، إلى جانب توظيف الأمن لوضع اليد على مزيد من الأراضي لإقامة نقاط تفتيش وحواجز، وشقّ مزيد من الطرق الالتفافية بذريعة «الحفاظ على الأمن».
في سياق الحرب الحالية (طوفان الأقصى)، دعا عضو الكابينت جدعون ساعر إلى «تحصيل أراضٍ من غزة في نهاية المعركة كثمن، وإقامة حزام أمني، وإفهام الطرف الآخر بأنه يبدأ يفقد الأرض». وتُعرف هذه السياسة بـ: الردع من خلال العقاب، إحدى الوسائل المتبعة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، والتي توظف حالة الطوارئ والحكم العسكري والضرورات الأمنية لسرقة المزيد من الأراضي.
مع الحالة اللزجة المتّبعة من قبل الحكومة الإسرائيلية، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تحولت القضية الفلسطينية من شأن سياسي (يمكن الاختلاف عليه) إلى شأن أمني (تتقلص الاختلافات حوله باستمرار). وأدّى ذلك بالتالي إلى تكثيف الاستيطان والاستيلاء على المزيد من الأراضي، فمنذ مطلع العام الحالي 2024 شهدت الضفة الغربية أكبر عملية استيلاء تحت مسمى أراضي الدولة منذ ثلاثة عقود، وبلغت المساحات التي استولى عليها الاحتلال تحت هذا المسمى 10 آلاف و640 دونماً في إعلانين منفصلين.
واستثمرت حكومة الاحتلال الظرف الحالي لمصادرة المزيد من الأراضي، ملتفّةً على «المؤقتية» الواردة في اتفاقيات جنيف، والتي تعني بحسب القانون مصادرة أراض بشكل مؤقت لدواع أمنية وعسكرية.

المقاومة جدوى مستمرة: المقاومة المكانية
لم تنفك محاولات الفلسطينيين القانونية لملاحقة الاحتلال على سرقة أراضيهم، مع إقرار المنظومة الدولية بحق الفلسطينيين فيها، بوصف الضفة الغربية كـ«منطقة محتلة، والمستوطنات بـ«غير الشرعية». واعتبر الخبير الحقوقي مايكل لينك، المقرر الخاص السابق حول حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، أن المستوطنات جريمة حرب.
المعركة القانونية التي لم يجن الفلسطينيون ثمارها حتى الآن هي كناية عن نقاش حول قانونية المستوطنات من عدمه لا يتعدى جدران المحاكم. لذلك، لا خيار أمامهم سوى مواجهة الواقع ومقاومته، بالسُّبل المتاحة.
عام 1975 أعلنت الحكومة الإسرائيلية «خطة تطوير منطقة الجليل»، وتنص على مصادرة أراض فلسطينية لبناء تجمّعات سكنية يهودية. وفي نهاية السنة نفسها، صادرت إسرائيل نحو 3 آلاف دونم من الأراضي التي يملكها أهالي قرية كفر قاسم. وفي مطلع شباط/ فبراير 1976 رفضت الشرطة الإسرائيلية منح تصاريح لفلاحين من قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا بدخول أراضيهم الواقعة في منطقة المل التي حوّلتها إسرائيل إلى منطقة عسكرية. فأعلن هؤلاء، في 30 آذار/ مارس 1976 إضراباً وصل صداه إلى خارج أراضي 48، وشهدت الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللجوء في لبنان إضرابات تضامنية. واستشهد في المواجهات 6 فلسطينيين وجرح 49 آخرون واعتُقل أكثر من 300. منذ ذلك الوقت يحيي الفلسطينيون ذكرى «يوم الأرض» في 30 آذار/ مارس من كل عام.
المعركة القانونية التي لم يجن الفلسطينيون ثمارها حتى الآن هي مجرّد نقاش حول قانونية المستوطنات من عدمه


سلك الفلسطينيون مسالك عديدة لاستعادة الأرض ووقف سرقتها، منها المقاومة المكانية الشعبية، عبر حملات لشحذ دعم الناشطين الدوليين لتحدي الجهود المستمرة لمصادرة الأرض الفلسطينية وتأكيد ملكية الفلسطينيين، منها قرية باب الشمس التي أسّسها نحو 250 ناشطاً فلسطينياً، وعين عجلة في وادي الأردن، والعراقيب وسوسيا في النقب.
في معرض تفسير مقولته الشهيرة «المقاومة جدوى مستمرة»، يستعرض «المثقف المشتبك» الشهيد باسل الأعرج (1984 - 2017) ضمن جولة في تاريخ المقاومة في شمال الضفة الغربية (جنين)، قائلاً: «كل ثمن تدفعه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، تأخذه لاحقاً»، مستدلاً على ذلك باستحضار قرار تفكيك مستوطنات جنين وغزة عام 2005، بما يؤكد «جدوى المقاومة»، وليس لأن جنين لا تشكل أهمية في العقيدة اليهودية بحسب السردية الصهيونية لقرار التفكيك.
من نافل القول أن الاحتلال الإسرائيلي بوصفه مشروعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً، يسعى إلى توظيف الدين اليهودي والقانون الدولي بوصفه قوة احتلالية بما يتيح له السيطرة على الأرض مؤقتاً، وتكييف كل ما هو غير متاح لسلب الأرض واستمرار بناء المستوطنات. لذا يوصف الصمود على الأرض بأنه أولى خطوات سِلّم المقاومة، تليه ملاحقة الاحتلال قانونياً، وليس انتهاءً بالمقاومة المكانية الشعبية التي لا تتوقف من بلعين إلى بيتا وليس انتهاءً بمسيرات العودة في غزة.