القاهرة – "ما أجمل نومة على كتوف أصحابك، تنظر صادقك من كذّابك، تبحث عن صاحب أنبل وش في الزمن الغِش، والرؤية قصادي اتسعت". الجملة نقشها عبد الرحمن نجل الشيخ محمود الأبنودي والسيّدة فاطمة قنديل، تلك الجملة التي أعادت تعريف فلسفة الموت لدى أجيال، تلك الجملة التي رددناها مع كل شهيد يرتقي ونحمله، تلك الجملة التي أتبعها الأبنودي قائلاً "تعالوا شوفوا الدنيا من مكاني".
لم يقلل الأبنودي يوماً من شأن الموت. كُلّما تحدّث عبد الرحمن عن الموت في قصيدة كان يتحدث كالميّت، كان يصف ما يراه من أعلى، ويصف أحاديث البشر السائرين خلفه وروحه التي تسبقهم، ونقول كان لأننا اليوم أمام حقيقة جافّة وصلبة، قدر جفافها وصلابتها هو نفسه قدر كونها حقيقة، نقول كان لأننا اليوم نتحدّث عن الأبنودي ميّتاً.
اليوم وبعد عقود طويلة أعطانا فيها الخال نبذة عما سيفعله اليوم وما سوف يقوله، اليوم ونحن بصدد تنفيذ مشهد كان قد كتبه الأبنودي عشرات المرّات، اليوم ونحن على أعتاب عهد جديد على كافّة الأصعدة، نُفتح خزانات الورق لدينا لنُخرج منها السيناريو الذي كتبه منذ عشرات السنين لنبدأ في تنفيذه:
"وفي ليلة التشييع، كان القمر غافل
ماجاش..
والنجم كان حافل
لا بطّل الرقصة ولا الارتعاش
لمّا بلغنا الخبر
اتزحم الباب، اتخاطفوني الأحباب
ده يغسّل، ده يكفّن، ده يعجن كفّه تراب
وأنا كُنت موصّي لا تحملني إلا كتوف إخوان
أكلوا على خوان
وما بينهمش خيانة أو خوّان
وإلا نعشي ما حاينفدش من الباب"
هذا المشهد المتكامل الذي كتبه الخال سلفاً، سنقوم بتأديته اليوم في تلك الدنيا التي تسخر مما نكتب ومما نشرع في كتابته بل ومما نخطر بأذهاننا.
رأى الأبنودي الموت بعين الفيلسوف ورأى الحياة بعين الشاب الطموح، فقد كان الشاب بداخله دائم السؤال عن موت الفجر، وانتظار الفجر التالي. دائم الأمل الذي بمجرد موته، يسلّم الراية للأمل التالي.
صاحب عبارة "وحتى لو ننسى ميعاده، الفَجر فاكر، مابينساش" هو من وعد جيلنا بأن الفجر يأتي حتى لمن لم يطلب مجيئه. وها قد غربت الشمس على جسد الأبنودي، ها قد رُمي الظل عليه وها نحن نرثيه، يا له من زمان جدير بالوصف الذي قاله الخال عنه "زمن يوم ما يصدق، كذّاب".
مات صاحب المرثيّات الفلسفيّة، وها نحن نبحث في معاجمنا بتخبّط وقلّة خبرة عن عبارات نرثيه بها، كيف بحق روحك وضعت كلماتك المتراصّة إلى جوار بعضها البعض ورثيت الشهيد ناجي العلي؟ قائلاً: "أمّايا وانتي بترحي بالرُحى، على مفارق ضُحى، وحدك وبتعددي، على كُل حاجة حلوة مفقودة، ماتنسينيش يمّا في عدّودة، عدّودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن، لا تولولي فيها ولا تهلّلي، وحطّي فيها اسم واحد مات، كان صاحب يمّا واسمه ناجي العَلي".
واليوم، كيف تغافلت أذهاننا عن سؤال الخال في أي حديث صحافي عن كيفيّة غزل الرثاء في خيوط الثياب السوداء؟
قابل الخال عمّته "يامنة" التي قال على لسانها قصيدته، قابلها بعد وداع خلّدته عبارات السخرية من الزمان والمكان، وداعه لها الذي قالت له فيه: "أول ما يجيك الموت افتح، إوعى تحسبها حساب" و"الورث تراب، وحيطان الأيام طين، وعيالك بيك مش بيك، عايشين". قالتها له ثم دعته لزيارتها في العيد التالي ليعلّق الخال قائلاً: "وجيت لا لقيت يامنة، ولا البيت".
كان الأبنودي وكنّا، قال القصائد ومن خلفه قُلنا، ذهب الخال وسنتبعه حتماً إلى حيث ذهب. ترك الأرض وحلّق ليرقبنا وينظر لنا، سار بعيداً بعدما عاش بيننا. ذهب صوت المخيّمات وراثي الأبطال، ذهب الأبنودي إلى حيث يرى ناجي العلي وناظم حكمت وعبد الحليم حافظ وبليغ حمدي ومحمد رشدي وبقيّة الأحباب الذين غادروا مبكراً.
ذهب الخال وأصبحت كل كلمات الوداع والرثاء والسخرية من الموت والوعد بلقاء مرتقب أضعف من أن تُقال في من قال في الموت: "خايف أموت من غير ما أشوف تغيّر الظروف".
ذهب صاحب ديوان "الزحمة" وقصيدة "الخواجة لامبو العجوز مات في اسبانيا"، تلك القصيدة التي تسدل ستائرها على عبارات الوداع للفنان الذي قتلته شوارب الشاويش، وقتله الظلم واليأس والحزن. ستائر القصيدة الحزينة التي أسدلت على مشهد الجسد المسجى على الرصيف لم يرد لها الخال أن تنتهي كذلك، ولكنه ختمها بكلمات بطل القصة التي تقول: "الضباب عمّال يضيع، لجل يدّي فرصة للشمس اللي هتزور الربيع".
ونحن الآن لا نريد أن تنتهي القصيدة، لا نريد أن نختتم الرواية بمشهد الجسد المسجى ولا العيون الزائغة، لا نريد أن نقول "الوداع يا خال" ونتبعها بنقطة تنهي العبارة، ولا يسع أحدنا إلا أن ينقش إحدى عبارات عبد الرحمن لنضعها بأيدينا على شاهد قبر. القبر الذي سيأوي جسداً مليئاً بالحكايات التي لا تنتهي، القبر الذي سيضم سيرة أدبية شعبيّة وتراثاً مكتوباً ومُغنّى.
لا يسعنا إلا أن نختتم القصيدة بعبارة الخال: "طلع مش بعيد الصباح، ومستنّي خلف الشجر"