ظلَم القدر فتحية أحمد كما لم يظلم أحداً من أصحاب وصاحبات حناجر الطرب الثمينة، بمن فيهم أسمهان. وقْع الموت المبكر مؤلمٌ جداً طبعاً، لكن ليس على من يرحل إنما على محبّيه. بل إنّه مفيدٌ لناحية التعاطف الذي يولّده تجاه الراحل، والأمثلة كثيرة في الشرق والغرب.


أمّا المرض المزمن الذي يضرب الفنان في بداية أجمل وأنضج مراحل عطائه، فهو أسوأ ما يمكن أن يصيبه. إنه هنا، يدرك إمكاناته، لكنه عاجز. التعاطف معه في مرحلة أولى، يؤدي وظيفته في العزاء ثم يضمحلّ تدريجاً. هكذا كان مصير المطربة الكبيرة فتحية أحمد التي أبعدها مرضها المزمن عن الغناء، وبالتالي عن العطاء والأضواء. والأسوأ أنّه حرمها من توثيق صوتها بأفضل طريقة ممكنة (معظم تسجيلاتها «مونو»، أو أحادية التسجيل). أضف إلى كل هذه المصادفات السلبية، أنّ انكفاء صوت عظيم آنذاك لم يكن يعتبر كارثة، بفعل غنى المرحلة فنياً مع وجود عشرات الأصوات الخارقة. لكننا اليوم نشعر أكثر بخسارة شخصية بحجم فتحية أحمد. خروج إنسان طيب من الجنة لا ندرك هوله إلّا إذا أصبحنا نعيش في سَدوم وعَمورة.


أحد تسجيلات «يا حلاوة الدنيا» بصوتها حصل بحضور أم كلثوم
سدوم وعمورة؟ نعم، وقد شاهدنا يوميات أهلها في الدورة الأولى من «جائزة الموسيقى العربية» التي بُثّت قبل فترة على MTV. عاشت المطربة المصرية في جوٍّ عائليّ فنّي، إذ كان والدها أحمد الحمزاوي ملماً بالغناء والتلحين. مارست الغناء منذ صغرها ثم درست مع كبار مطلع القرن الماضي، على رأسهم أبو العلا محمد، فاحترفت الفنّ تدريجاً من خلال انخراطها بالفرق المسرحية (الغنائية) التي ازدهرت في عشرينيات القرن. غنّت بعدها لكبار الملحّنين، على رأسهم سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمد القصبجي («شدو بلبل عالغصون» وهي أول أغنية لها، ثم الفالس الجميل «يا ترى نسي ليه»…) وزكريا أحمد وغيرهم، كما كانت لها تجربة سينمائية بطبيعة الحال (النشاط الحتمي لمعظم المطربين الكبار). أدّت الأشكال الغنائية الطربية من القصيدة إلى الدور والطقطوقة والموّال، وعُرفت بأسفارها الكثيرة بين مصر وسوريا (ولبنان وفلسطين)، فلقّبها الشاعر خليل مطران بـ «مطربة القطرَين»، وقد حصل ذلك في مدينة زحلة (لبنان/البقاع) بحضور عبد الوهّاب وأحمد شوقي اللذين باركا اللقب. ربطتها بأم كلثوم صداقة متينة، فغنّت لها موّال «الناس تقدّم تهانيها» خلال حفلة تكريمية لأم كلثوم لدى عودتها من رحلة علاج عام 1949. ويقال إن أحد تسجيلات «يا حلاوة الدنيا» بصوتها (ألحان زكريا أحمد، من مسرحية غنائية بعنوان «يوم القيامة») حصل بحضور «كوكب الشرق»، وهو تسجيل يعطي فكرة شبه كاملة عن قدرات فتحية أحمد الصوتية. هذا اللحن الرشيق، تلك الرشاقة الخاصّة بشيخ الملحنين، اشتهر لاحقاً بصوت سيد مكّاوي، الذي غنّاه باحتراف، لا شك، غير أنّه ربما بالغ في تظهير جوهره الفرِح من خلال الأسلوب الذي اختاره لأدائه. لكن الست فتحية تؤديه على طريقتها وتستهل الغناء بموّال أقرب إلى الإعجاز في الأداء والعُرَب والتلاوين المرتجلة (يسمح بها شكل الموّال وكذلك مبدأ التطريب لاحقاً في متن الأغنية) والعلو الذي تبلغه بسهولة أكثر من مرة (الـ «مي بيمول» السادسة إذا اعتمدنا الرقم 4 للـ «دو» المركزية، مع الاعتذار من غير الملمّين بالنظريات الموسيقية)، لمن يعرف التسجيل، ويتخطى بنغم ونصف النغم الطرف العلوي (الـ «دو» السادسة) من المدى الطبيعي للصوت الأكثر ارتفاعاً عند النساء (سوبرانو). هذا رغم أن ثمة ملصقات كانت ترفِق اسم فتحية أحمد بعبارة «الصوت الجهوري» (!)، علماً أنه توصيف غير بعيد عن الحقيقة (مطلع «إنّي أراك معي» على سبيل المثال)، فهي تتمتع بقدرة هائلة على الغناء على طبقات متباعدة نسبياً، من ضمنها الطبقات المنخفضة (عند النساء طبعاً).