تبدو الصحافة التي تحاول الخروج ولو بقدر يسير، على الإملاء والفرْض، ضرباً من العمل الانتحاري، إذا ما استعرنا شيئاً من أدبيات وممارسات «الإرهاب» التي نشهد تجلياتها التي لا تنتهي في الشرق. ضمن دائرة مريضة وممسوسة بالرقابة والتخوين، والنجاح في التدجين، تدجين من لا يكلفون أنفسهم عناء الاحتجاج - مجرد الاحتجاج – لم تكن «الوسط» في وارد أن تكون رهينة الرقابة، وإن لم تنجُ من التخوين بالوكالة: هذه المرة من قبل زملاء المهنة الذين دخلوا السوق بدافع الربح أكثر من دخولهم بدافع تأدية دور وطني ومعرفي.
كانت الأوقات جميعها محفوفة بالمخاطر. حتى في اللحظات التي نتوهم فيها أننا نعيش أعياداً وطنية، أو دينية. المكنة الأمنية لا تعرف الاثنين معاً. تجد أعيادها في إحكام قبضتها أكثر فأكثر على مفاصل الحياة، والإمساك بتفاصيلها ودقائقها: حيوات البشر الذين يظلون مقدمات ونتائج الاتهام. الاتهام الجاهز.
كان التحذير من الأمان الوظيفي أول الأمر، من أصدقاء في صحيفة زميلة بدأت العمل معها بعد عودة من هجرة اختيارية ـ ظاهراً ـ لكنها قسرية حين تنجو بروحك كي لا تدخل ضمن أصول الأجهزة الأمنية. لن تكون واثقاً بأن الأمان الوظيفي في «الوسط» سيكون متاحاً مع مشروع صحافي أول ملامحه الخروج على مواصفات الإعلام الأمني، وأن يكون منحازاً لملفات الناس وقضاياهم. من يضمن استمرار هذا الهدوء الذي تتم صناعته استعداداً لأكثر من طوفان قادم؟
لم يكن الأمان الوظيفي بمعناه الجاهز والسخيف أيضاً، مسألة تستدعي التوقف عندها. كان الأمر الذي يستدعي التوقف عنده: هل يمكن لـ «الوسط» وكادرها التأسيس لأخلاقيات غائبة عن المهنة؟ هل يمكنها والكادر الذي سيتحمّل تبعات الانتساب إليها، خوْض أكثر من مواجهة في هذه البيئة القائمة على الاستقطاب مدفوع الثمن، والولاءات التي يمكن شراؤها حتى بكوبونات البنزين، والوجبات السريعة؛ عدا امتيازات تنالها نخبة ولدت كي تكون بيادق في أزمنة السقوط في الوحل والنجاسات أيضاً.
وبالنسبة إلى الذين امتهنوا الكتابة، لا أمان وظيفياً في انتظارهم، على الأقل في هذه الجغرافيا المشبعة بالرعب من اليابسة إلى اليابسة. كان ذلك تمريناً تمت ممارسته لسنوات، ربما لأكثر من ثلاثة عقود.
كان الأمان الحقيقي بالنسبة لـ «الوسط» وكادرها، ألّا نكون شهود زور في هذا المحفل غير البريء، الذي لا يمت إلى السماء ولا إلى الأرض بصلة. وقتها لم تتضح ملامح المحفل، ولم يطل شهود الزور برؤوسهم، كانوا في هيئة أعضاء في مجالس حكومية، وجمعيات أهلية وحقوقية ومهنية. لم ننتظر الوقت كي يطل كل أولئك برؤوسهم، لأننا كنا منذورين لمرحلة يطفو مثل أولئك على سطحها كالطحالب.
ما حدث من تخريج نهائي لإغلاق فم «الوسط» يبعث على الضجر والشفقة في الوقت نفسه. الضجر، لأننا لن نصحو على تحديات جديدة وشراك واهنة سننجو منها بفضل الحصانة التي كنا نظن أننا نتمتع بها بفعل تكرار ما حدث. والشفقة لأن الكذب الذي لا يراد له أن يكون رسمياً؛ بل شعبياً، تراءى لنا بكل تجلياته وقبل أقل من 24 ساعة من إعلان الأزمة مع دولة شقيقة وجارة (قطر) أصبحت المعادل الموضوعي لعدو المرحلة الجديد!
هل كنا نكترث بالنجاة من كل هذه الأحابيل التي وضعت في الطريق اليومي إلى «الوسط»؟ نعم، ولا. «نعم» كي نستطيع الاستمرار في الخروج على الإملاء والفرْض، و«لا» لأن الذهاب في هذه الطريق لا تعد بنجاة أساساً!

*كاتب وصحافي بحريني