في وسط خمول الحراك النسوي وإيقاع الحياة الصحراوي البطيء، أذكر مفاجأتي عند مروري بالسيارة أمام مجموعة من النساء وقد تجمعن أمام مبنى المجلس، حاملات اللافتات الملونة تحت شمس صيف عام ٢٠١٣ الحارقة. ولكن مفاجأتي الحقيقية كانت سماعي أصواتهن الحادة وهي ترفع الشعارات المنددة بالمساواة، ورؤيتي لوجوههن الهاتفة التي تشبه وجه الجارّة، والعمّة، وصاحبة الصالون في زاوية الشارع، ووجه السيدة التي وقفت أمامي في طابور المعاملة الحكومية تلك. فلقد كانت وجوههن حقيقية تَعِبة، وليست كوجوه من تخدرت أذناي عند سماع كلماتهن الكبيرة وشعاراتهن المترجمة. ولم أدرك حينها أني شهدت أحد اعتصامات حملة «أمي أردنية، وجنسيتها حق لي» حتى وصلت وجهتي، وبحثت عنهن في قنوات التواصل الاجتماعي حتى وجدتهن. وهناك أيضاً وجدت منسقة الحملة ومن لقبها الإعلام بأم الأردنيين، السيدة «نعمة الحباشنة». بدأت قصة «نعمة» عام ٢٠٠٦، يوم ترملت أم الستة هذه لتجد أولادها تحت إقصاء كامل من منظومة الدولة. فأي ممارسة تلقائية للحياة المدنية لهم داخل الدولة، كالتواجد داخل حدود الدولة بدون طلب إقامة، أو العمل بدون معاملة تصريح شبه مستحيلة، أو التملك بدون مواقفة، أو حتى طلب العلم في المدارس الحكومية، تعتبر تعدياً قانونياً على هذه المنظومة. وكنتيجة لذلك تم الدفع بأبناء المرأة الأردنية، وليس بمن هم أبناء للرجال، إلى اللّامكان داخل وطنهم، والنظر إليهم كغرباء غير مرحب بهم ودخلاء على المجتمع الأردني.
وبعدما خذلها القانون الذي بُني على تبعية مجتمعية وقانونية للرجل تحت مبدأ «الولاية»، مؤدياً بالمرأة المتزوجة من غير أردني، كنعمة، بأن توضع في أدنى مراتب السلم النوعي، قررت نعمة الأضعفهن شأناً أن تتحدى المنظومة الأبوية من رأسها. فوقفت أم الأردنيين عشرات المرات أمام مبنى المجلس مطالبة بتغيير قانون الجنسية تحت شعارات حق المساواة بين الرجل والمرأة. وبين ليلة وضحاها، أصبحت تلك المرأة البعيدة أشد البعد عن أي تدريب أو إهتمام سياسي، ناشطة حقوقية تطالب بمنح الحقوق والجنسية لأبناء الأردنيات المتزوجات من غير الأردنيين. فبادرت نعمة في تنظيم مثيلاتها من النساء في اعتصامات تحت حملة «أمي أردنية، وجنسيتها حق لي» وكتابة المقالات الصادقة البسيطة، فكتبت عن «صواني المعمول» والفرّان، و«كعكة قُدرَة القادِر»، و«لعنات الأمهات على من يحملون الأفكار العنصرية الذكورية»، والحقوق الدستورية، والمساواة، ودور المرأة الفاعل. وأمسى صوت نعمة زئيراً معارضاً يعلو فوق وصاية أخضعتها يوم ولدت كأنثى لمن يتولاها من الذكور.
فتحت مطالب الحملة أبواب الذعر والعنف ممن أسمتهم نعمة في كتاباتها «مجتمع الكراهية»، فوقفت تلك الأم الجميلة في وجه الصارخين عليها من المسؤولين: «لسنا بحاجة للمزيد من مَزارع التَفريخ»، «ماعنا خبز نطعمي عيالنا لنطعم أولادكن، أبناء الأردني (الرجل) أحق …». كم هو غاضب، رجلنا العربي هذا! فيسهل غضب «زلمتنا» لأي مساس بالهوية الوطنية الأبوية، وقد تعنت المجتمع لهذه الهوية تحت معادلة من ثقافة الموروث القبلي، والورع الديني، والخوف من تسرب الصراعات الخارجية المحيطة بنا للداخل، وهذا بالإضافة إلى القوانين المدنية الباقية عن قوانين الإستمعار البريطاني الأبوية.
وبعد العشرات من الاعتصامات والتحالفات والتصريحات، والضغوط الخارجية والداخلية، تم إعطاء أبناء الأردنيات مجموعة من المزايا الخدمية كتسهيل الحصول على رخص قيادة للمركبات، أو تسهيل معاملة إصدار تصريح الإقامة. ولكن ما زالت المادة ٣ من قانون الجنسية تقبع عنيدة في وجه حجج الهوية الوطنية والحاجة لحمايتها. وأما عن نعمة، فقد فارقت هذه الحياة في شباط عام ٢٠١٥ بعد رحلة أليمة مع مرض السرطان. قبيل وفاتها، كانت من كلمات نعمة حسين الحباشنة الأخيرة أن «مصارعةُ المرض أسهل من مصارعة العقول المتحجرة التي تحارب الحق»
في بلد توالت التقارير الحقوقية العالمية على تصنيفه في أدنى عشرة مراتب لناحية مشاركة الفاعلة للنساء على الرغم من نسبة التعليم المرتفعة للمرأة، لا يسعنا إلا التساؤل عن دور النشاط النسوي. لست أنكر وجود من يعملن لتغيير المنظومة الأبوية في الأردن، فقد حلت بعضاً من التغييرات كإلغاء المادة ٣٠٨ من قانون العقوبات الأردني عام ٢٠١٧، والذي نص قبلاً على«إعفاء الرّجل من الملاحقة في جرم الاغتصاب أو هتك العرض أو الخطف للزّواج أو ما شابه، في حال انتهت الواقعة بزواجه من الفتاة التي اغتصبها“. ولكن ما زالت القضايا النسوية بحاجة لمن يرفعها، فإن جرائم الشرف بإزدياد عاماً بعد عام، حتى وصلت عام ٢٠١٧ لستة وثلاثون جريمة قتل. هذا وبالإضافة إلى حالة الإستهتار الدائمة بالنساء في الخطاب الوطني الرسمي، فنرى من ذلك أمثلة عدة: كإسكات النائبة هند الفايز بالصراخ عليها خلال كلمتها «اسكتي يا هند، اقعدي يا هند»، أو في إحدى الجلسات المشتركة عندما طُلب إعطاء النواب حق الحديث لنائبين مقابل عين واحد، تم النقاش على قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» كنوع من الإهانة للنواب بمقارنتهم بالنساء، وعند الإعتذار لاحقاً، تم وصف النساء بالرجال: «النواب رجال وحتى نساء البرلمان رجال بمواقفهن». فإن الوعي العام بالقضايا النسوية مغّيب تماماً من الخطاب الوطني. وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على وجود حاجة ملحة للمزيد من المعارك الرسمية والشعبية النسوية.
سيذكر التاريخ حملة «أمي أردنية، وجنسيتها حق لي» كصحوة نسائية هامة «(أيقظت) الآلاف من النساء الأردنيات المتزوجات من غير أردنيين من سبات عميق» كما كتبت نعمة فى آخر مقال لها. فلقد جسدت الحملة ومنظِمتها مثالاً يحتذى به عما هو الحراك النسوي الشعبوي. ولكن ما زالت المعارك كثيرة، ومازال «زلمتنا» يمارسون الاستقواء عند مرور الأنثى في الشارع، وعند جلوس الأنثى في المكتب، وعند وقوف الأنثى معارضة ومطالبة بحقوقها أمام مبنى المجلس. فمن هن النساء القادرات على الإصلاح؟ هن نعمة.
فإني في انتظاركن يا «النعمات»!