الكتابة عن المرأة في «يوم المرأة»، هي وجهٌ للكتابة عن الرجل (الثقافي والإجتماعي والسياسي والمعرفي والديني) في زمنية «يومٍ» قرر منحهُ مشكوراً للمرأة من كامل زمنه هو وهو: «السنة» (السنة تبدأ بالفعل الذكوري دوماً، فمولد ذكر «المسيح» أو هجرة قادها ذكر «الرسول محمد»، هي بدايات إدراك وجودي وذكوري للزمن تبدأ بالإرتحال ذكر النبي/ الذكر في الدنيا، وصولًا إلى الإله الذكر في آخر الزمن)، وأي كتابة عن المرأة في ذلك اليوم، هي تأكيد على مركزية الرجل و طرفية المرأة، أي أنها إمعان في مأسسة وتكديس تلك المركزية السلطوية في الإدراك الذاتي لكل فرد فينا، ذكرًا كان أم أنثى.
إذ تفترض المقاربة المعرفية للسلطة أن نزوع الناس للتصنيف والتنميط هو مسار سوي، باعتبار أن غايته فك رموز هذا العالم المحيط بهم، إلا أن هذا المسار يحتوي على عملية تقسيم للجماعات إلى فئتين: فئة «نحن» وفئة «هم»، أو «ما يشبهنا « و«ما هو مختلف عنا». وديناميات التنميط تلك تكدس سلطة الخطاب المُنمِط وسلطة السلطة التي هندسته/أنتجته، مايكسبها قيمة إيجابية، مقارنة بالجماعة الأدنى/الطرفية. ينتج عن ذلك أن إدراك ثابت ودوني للجماعة الطرفية، باعتبارها متناسقة التكوين، ثابته الصفات مسطحة البنية، مما يصعب مهمة تفكيكها وتناول فردانيتها البنيوية والذاتية.
ترى ساندرا بِم الباحثة في علم نفس الجندر/ الجنسانية، أن تلك المركزية الذكورية (Andocenterism) أنتجت بالتفاعل مع إطارات إجتماعية أخرى موازية لها وهي: التقاطب الجندري (Gender Polarization) والأصولية البيولوجية (Biological Essentialism)، تعصباً جنوسياً مركزياً، لصالح الذكر، أديا إلى هندسة كامل النتاج الإنساني كالثقافة واللغة والسياسة والدين والإجتماع والفنون والعلوم الطبيعية، وفضاءاتها جميعاً، بشكل متحيز للذكورة.
وبالتالي فالحديث عن «المرأة» في يوم زمنيتها التي تبدو خطابياً حرة/ خالية من الرجل، إنما هو ليس فقط تأكيد على سلطته، ولكن غسيل لأثر تلك السلطة تجاه فئة مجتمعية بعينها، إذ أن تناول «حقوق المرأة» في مواجهة القوى الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، يبدو في هذا السياق منفصلاً عما تتعرض له بقية فئات المجتمع من مظاهر تمركز السلطة وقمعها.
في سياق فلسطيني لا يختلف كثيراً عن سياقات عربية أخرى، نجد جرائم الشرف، وهي الجرائم القائمة ليس فقط على نفي الجسد الأنثوي بقتله، إنما هي حادثة قبلية في الإدراك، فجسد الأنثى ليس ملكاً لها بالمعنى البيولوجي/المادي، وصولاً إلى المعنى المتجاوز. تناول تلك النوعية من الجرائم لا يجب أن يتم بمعزل عن بطش السلطة المركزية الأبوية. يرى ستيفين وايتهِد في كتابه «رجال وذكورة» أن التمييز ضد المرأة، وخلافاً لما هو شائع لا تختص به المجتمعات غير الصناعية، ولا المجتمعات في طور النمو. «لا يزال الرجال في كل المجتمعات، الفئة الجندرية الحاصلة على الامتيازات في أكثر المجالات. صحيح أن النسوية أثرت بطريقة كبيرة على ذاتيات ملايين النساء والكثير من الرجال. ولكن من يظن أن بضعة عقود من التفكير والنشاط النسويَيْن يسعها تقويض قرون من التمييز الراسخ، ومن التنميط والتحيز الشائع ضد النساء (...) من يظن ذلك لا يعيش في العالم الواقعي (...) فحين نُسأل عن مدى تقديرنا للمرأة، لا كموضوع جنسي، لا باعتبارها من يقوم بالأعمال المنزلية، ولا كَيَدٍ عاملة صناعية رخيصة، إنما كفرد يمارس السلطة في مجالي العام والخاص، وحين تأتي الإجابة «تماماً كالرجل» في كل موقع جغرافي وثقافي في العالم، يسعنا القول حينها أننا أصبحنا في عالم ما بعد النسوية».
لعل هذا ما يمكننا من خلاله فهم كيف أن إستلاب المرأة ليس فقط إستلاباً للجسد، ولكنه إستلاب إدراكي له تمظهر لا يختلف من حيث المبدأ الحداثي في إستلاب الجسد عموماً، وتمثلاته الإدراكية. لا يمكن النظر إلى جسد المرأة بشكل مغاير في تداعياته الوجودية والحقوقية عن الجسد الإنساني عموماً، فيخطئ الظان منا أن الحضارة الغربية مثلاً إحترمت حقوق المرأة، بمجرد نظرة على أعداد جرئم الإنتهاك الجسدي بداية من التحرش إلى الإغتصاب، بالتناظر مع صدرته تلك الدول ثقافياً ومؤسساتياً من أنماط السيطرة على الجسد عموماً، وحتى باسم تحرير المؤنث منه.
في عالمنا العربي، لايختلف الأمر كثيراً إلا في فجاجته وصلابة الإنتهاك الواقع على المرأة مقارنة بسيولته الحداثية في الغرب، فالقانون الذي يعتبر مؤسسة ذكورية بالغة الفحولة، يعتبر الوجود الأنثوي منقوصاً أو طرفياً مقارنة بالرجل، مستمداً ذلك من مؤسسات خطابية ذكورية أخرى اللغة و/أو الدين و/أو السياسة (في جانبه الإقتصادسياسي). كل ذلك يعود بنا إلى بنية المؤسسة الأصغر في المجتمع وعلاقات القوى فيها وهي العائلة وتنظيماتها. أدى ذلك التسلط الجنوسي إلى إستلاب لغوي لجسد الأنثى، فالأنثى لغوياً لا تُعرَف كأنثىى إلا إذا بدت عليها علامات القدرة البيولوجية على الإنجاب. بذلك تتحول إلى ملك ذكوري بالإسم/ النسب قبل أي شيء إمتداد لنسل الرجل الذي سبقه بالأبوة لها، وهو سيمد فيها من إسمه/زمانه/عائلته ونسله/مكانه/جسده، ليمكننا حينها من فهم كيف يمكن للقانون باعتباره مؤسسة فحولية، تسبح في فضاءات مذكرة أخرى، أن يصمت أمام حالات من الإعتداء الجسدي على المرأة كجزء من الحفاظ على ثلاثية: المركزية الذكورية، والتقاطب الجندري والأصولية البيولوجية، فيهندس جسد المرأة الأدنى بما يناسب قوته الأعلى: بداية من الختان (كان يغطى بأغطية تشريعية ثقافية وإجتماعية ودينية وجنسية) وصولاً إلى تخفيف عقوبات جرائم الشرف (ولن أقول التغاضي المؤسسي عنها ودعمها كما في الكثير من دولنا العربية) وحتى أخيراً، وليس آخراً عدم تجريم الإغتصاب الزوجي.
في السياق الفلسطيني، تكثر النماذج التي يمكن تناولها لإستلاب الفرد الفلسطيني (ذكراً كان أم أنثى)، ولعل في سياق الفحولة الوطنية، من مقاومة وغيرها، يمكننا الإشارة لنموذج فلسطيني أنثوي، واجه أنماط السيطرة من حضور ونفي وتشكيل وهندسة وطمس. إنها عائشة عودة، الإسم الذي يغيب عن أدبيات المقاومة و الوطنية، مع أنها كفرد دفع جسدها ما يدفعه كل الأسرى في معتقلات الإحتلال الإسرائيلي، ولكن يبدو أن ضريبة الهوية/الجسد المؤنث لاتحمل ما يستحق من الفلسطينية الفحولية ما يكفي لمساواتها بالذكر حتى ولو دفعت مبدئياً نفس أثمان النفي والطمس.
عائشة التي فقدت والدها في الثانية، فقدت حسها الوجودي بالقيمة في نظرات الآخرين، ما «أعطى الآخرين السلطة علينا» وبدأت تقرأ تفاصيل ذلك الإنعكاس لها في عيون المحيط وانعكاساته على ذاتها، إذ تتذكر كيف قال لها عمها : «يا خسارة، بس لو إنك ولد»، وحين ناقشته، أحال المنطق للمؤسسة الخطابية الأعمق في الذات العربية، القرآن، وحينها لم تستسلم، أصرت فقالت بمنطق طفولي: «تجويدي أنا أفضل من ولادك». (يذكر أن بعض البلادان في فضاءاتها العامة المدينية الحداثية، ذكر إسم الأنثى علناً مرفوض، ومناداتها تتم باسم الذكر الأقرب/المسيطر: الزوج، الإبن، الأخ، الأب).
استمر هذا النفي الوجودي والإستلاب لمركزية الذكر في المقارنة وصولًا إلى أعوام بعد ذلك، إذ يقول لها عمها: «لو أخذت شهادات واشتغلتِ ستكونين عبئاً، لأن الأسرة ستخاف عليك وتضطر لمرافقتك وحمايتك وإلا سببت لنا مشاكل»، هنا الذكر المسيطر/ العم يستمد خطابه من وضعية الأنثى ضمن حدود العام والخاص باعتباره مهندسهما، وتلك جدلية لها تمظهراتها في العمارة والعمران المدينة، إذ لطالما اعتبرت لتفاصيل بيولوجية تناسلية الداخل المستتر هو حيز مؤنث، والخارج الظاهر هو ملك ذكوري. وفي ذلك السياق كان إنتقال عائشة، كرد فعل من الحيز القروي للحيز المديني للدراسة، في محاولة لإلغاء ضغوط الخصوصية الجندرية في الحيز القروي، لإلغاء المشكلة. ومع تنامي العمل السياسي، كانت المبادرة بالإنتماء إلى العمل الحزبي، وإستمر الأمر كذلك في رفض ذكوري، ودخلت حيز العمل الفدائي، وما في الوطنية من ديناميات تصنيف ذكوري، وشاركت في إحدى عمليات المقاومة، وتم إعتقالها.
خرجت عائشة عودة ضمن من خرج في إتفاقية تبادل عام 1979، «لما خرجت عملية التبادل، كرمني الناس كثيراً واحتفلوا بي، لكن الألقاب والاحتفالات والمفاخر لم تعن لي شيئاً. كنت أحس أنني أكرم كفكرة، كشيء مجرد، وأن خصوصيتي الإنسانية الأنثوية خارج الموضوع (...) فقد تعامل معي أهلي كفتاة تحتاج إلى الحماية أو إلى رجل جانبها، ورأيت أنني لم أتخلص من سلسلة القوانين الخاصة بقمع النساء».
الجسد الأنثوي وما يفرزه من تمثلات مؤسساتية، لغوية، ثقافية، دينية، معرفية، إقتصادي، سياسية، إجتماعية وغير ذلك، يظل طوطماً لا يمثل نفسه ولا يمتلكها، إنما هو ملك لفضاءات المعرفة التي ينتجها تلافح كل تلك الأنساق وتعبيرها عن «الجماعة». وبالتالي، يصبح الجسد المؤنث/مادياً و إدراكه/معنوياً جسداً ملكاً للطبقة للجماعة للقبيلة للغة للهوية، حتى وإن بذل نفسه للوطن أو القبيلة أو غير ذلك، وبالتالي فمحاولة القول إنّ حقوق المرأة في يومها منفصلة ومتجاوزة عن حقوق كامل أفراد هذا المجتمع الذي تنتمي إليه ومنظومة السيطرة فيه، إذ لا يمكن النظر إلى جرائم الشرف بمعزل عن الإحتلال، أو التحرشات بمعزل عن القهر السياسي، إن «يوم المرأة» ما لم يكن كل يوم من السنة ضد كل أنظمة القمع والإحتلال والقهر، التي وإن كانت الأنثى في قلب كل واحدة منها بداية من اللغة والعائلة وصولاً إلى الدول والتاريخ، إنما يصبح يوماً للرجل يعيد غسل جرائمه وسلطته الممأسسة، في جسد «تاء التأنيث».