في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان والعالم العربي من حروب وفقر وتهجير، تجلت فكرة مؤتمر «الهجرة والمكان: إشكاليات وتحديات» الذي أقامته الجامعة اللبنانية (كلية الاداب والعلوم الانسانية - الفرع الاول) بمشاركة أكاديميين واختصاصيين، بهدف دراسة الأسباب التي أدت في الماضي البعيد والقريب لظهور الهجرة كحل لمشاكل الشعوب القابعة تحت خطوط الفقر والعنف والإستبداد، لتبدأ حياة جديدة في مكان غير الذي ولدت وترعرعت فيه. فما هي التحديات والإشكاليات التي تطرح من هذا الواقع الجديد، وما هي تفاعلات الهجرة على الصعيد النفسي والأدبي واللغوي في محيط غريب عنها، وربما رافض لتواجد المهاجرين فيه ولكيفية قبولهم واستقرارهم فيه؟تطرقت مداخلة جواد أبي عقل الى النزوح السوري في أعقاب الحرب السورية وتداعياته على لبنان وكيفية الإستفادة من هذه اليد العاملة الرخيصة نسبة للأعداد الهائلة التي دخلت، وتأمين ظروف عيش مريحة لهم من دون أن يكون ذلك عبئاً على اللبنانيين، وإلقاء الضوء على الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية في هذا الخصوص.
كما درس جورج عقل آثار النزوح السوري على القطاع الزراعي في البقاع في ظل الاحتباس الحراري الذي يعيشه العالم وخاصة لبنان مع تدني مستوى المياه فيه. وقد أشار الدكتور إلى الوضع الاجتماعي للنازح السوري، وللوضع الاقتصادي اللبناني، وتأثيره السلبي على العامل السوري والفقر الذي يعيشه داخل المخيمات العشوائية في البقاع، بالإضافة إلى تأثير الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخية كالتصحّرونقص المياه، والنزاعات التي تنتج عن ذلك.
وقدم د. حبيب بدوي دراسة عن هجرة اللبنانيين الى الولايات المتحدة والتي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، وبعد نبذة عن تاريخ الهجرة إليها، تطرّقت الدراسة الى أشكال هجرة اللبنانيين إليها، وأسبابها خاصة في ظل الحروب وعدم الاستقرار الناتج عنها.
كما بيّن غازي زهر الدين أسباب هجرة أبناء جبل لبنان خلال عهد المتصرفية، مشيراً إلى تحوّل الاقتصاد في جبل لبنان من الاكتفاء الذاتي الى اقتصاد السوق، وإلى الأسباب السياسة التي غيّرت من معالم المنطقة بعد ثورة الفلاحين والأحداث الطائفية التي تلتها، مما أدى الى هروب أعداد كبيرة منها الى خارج لبنان، مع تدني المستوى الاجتماعي والمالي للسكان فيه؛ وتضمنت الدراسة لمحة عن شخصية المهاجر الجبلي، وعن معاناته و وجهة اغترابه والمهن التي قام بها، ومن ثم اندماجه في المجتمع المستضيف.
كذلك عرض سليم منصور للهجرة اللبنانية في بداية القرن العشرين وكنموذج اعتمد قرية الهبارية في قضاء حاصبيا وقد عرض الأسباب السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي أدت الى هجرة اللبنانيين وتحليل أسبابها كالفقروالخوف من الحروب ، وقدّم بالجزء الثاني دراسة بحثية ،إحصائية وتحليلية عن قرية الهبارية ورصد الأماكن التي تمّت الهجرة إليها والأعمار التي هاجرت، والمهن التي مارستها والأوضاع الاجتماعية للمهاجرين.
وعن تاريخ هجرة الجزائريين الى فرنسا في ظل الإستعمار للجزائر، أوضح عثمان بوشكيوه أسباب هجرة الجزائريين الى بلد المستعمر في ظل استبداد قلّ نظيره، والدور الذي لعبه المهاجرون في دعم الثورة الجزائرية هناك.
ودرس بلال الحاج سليمان أشكال الهجرة في ظل العولمة وحركتها واتجاهاتها، كما رصد حركة الهجرة غير الشرعية الى أوروبا وأميركا والحلول لضبط تدفق المهاجرين وقوننتها، لمنع المعاناة التي تعيشها الشعوب المهاجرة.
كما تناولت د. سها حمود مظاهر الهجرة النظامية وغير النظامية الى أوروبا والسياسات المتبعة للحدّ منها، وضبط ما بات يعرف بالرق المعاصر والإتجار بالبشر وتهريبهم بزوارق الموت، كما تطرّقت الى توترات الإندماج في البلدان المستقبلة لهم.
درس الكاتب والصحافي عماد الدين رائف الهجرة الروسية الى لبنان والتي حصلت بعد الثورة البلشفية، والتي أتت الى لبنان ضمن الانتداب الفرنسي، وأظهر التفاعل الإنساني والأثر الثقافي التي عزّزته طبقة النبلاء الروس كاحيائهم للفنون والرسم من لوحات وطوابع بريدية وسندات مالية وأوراق اليانصيب والخرائط لدى سجل مسح الأرضي في لبنان وسوريا، كما حدّثوا الموسيقى اللبنانية من خلال إحياء الفولكلور بجمل لحنية معاصرة، والموسيقى الكلاسيكية، وقد تتلمذ على أيديهم زكي ناصيف ووليد الحجار وغيرهم.
وقام الأب جميل إسكندر بتحليل لمفهوم الهجرة من خلال مقاربة بين الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ما بين هجرة المسيح في الكتابين وهجرة النبي، وقد تطرّق الى معاناة الأنبياء في ظل الإضطهاد لهم ولتعاليمهم وانتقالهم وسفرهم الدائم لنشر الدين والإيمان وطاعة الله.
في ما يخص المداخلات الأدبية عن الهجرة، قامت منى الدسوقي بمقاربة في أدب المهجر ما بين عصر النهضة والعصر الحديث والمعاصر من خلال دراسة بيّنت فيها الخطوات التي اتخذها أدباء المهجر في عصر النهضة للحفاظ على الهوية والانتماء واللغة العربية، من خلال إنشاء الصحف العربية والمدارس والجمعيات والأندية، ومقارنة ذلك بما فعله أدباء المهجر في العصرين الحديث والمعاصر، الذين واجهوا ويواجهون التحدي الثقافي واللغوي نفسه؛ مع عرض نماذج أدبية وشعرية لكل منهم.
وتناولت د. درية فرحات تجليات ظاهرة الاغتراب في أدب المهجر اللبناني واعتمدت نموذجا شعراء المهجر الأفريقي- الأسيوي الجدد، وبعد لمحة عن سبب هجرة اللبنانيين الى أفريقيا وآسيا، عرضت لمظاهر الحنين الى الوطن، والتغني بطبيعته الجميلة رغم صعوبة الحياة فيه والمعاناة التي يعيشها بالغربة والدعوة الى الإياب.
وتعمق د. بسام عيسى بمسألة تفكيك الهوية اللغوية في ذهن المهاجرالعربي المعاصر وبَيّن العلاقة المتينة والارتباط بينهما، مما يؤدي الى الإرتباط بين الفكر واللغة وتأثيرها الواضح عليه، كما درس إشكالية ترجمة الواقع والحياة بالنسبة للمهاجرفي دوره اللغوي والمعرفي، والذي ينقل مفاهيم ثقافية جديدة تؤدي الى فقدان تدريجي للغة الأم، الذي بيّنه بمراحل الإنحسار اللغوي وخاصة عند الجيل الجديد.
وقدّم د. رزق الله قسطنطين دراسة للمكان وفزيائه بين نسبية آيشتاين وأسلوبية خليل حاوي في قصيدته "الماجوس في أوروبا" من خلال تحليل لتكرار المكان كفعل واحد وحركات متعددة والتوازي والتأثيرات الصوتية والإستفهام والنداء جميعها تدرس الحضارة الجديدة وانبهار حاوي والكون بها.
وأظهرت د. منى مارتينوس خصوصية المكان في أغاني الهجرة اللبنانية وتفسير المراحل التطويرية لها، واعتمدت ثلاث أغاني مأخوذة لفيروز وعازار حبيب وفارس كرم والتي تتناول الهوية الثقافية للمكان، دراسة الهابيتوس،habitus ثم قامت الدكتورة بدراسة تحليلية لعناصر المكان في تلك الأغاني كالضيعة والبيت والأرض ودلالاتها كالإحساس بالإغتراب وفقدان الشحنة العاطفية التي كانت تمنح التوازن لحياة الفرد الإجتماعية.
قام د. علي نسر بدراسة الإغتراب في شعر الصعاليك في القصيدة العربية الجاهلية (لامية الشنفري أنموذجا) الذين اتخذوا التمرد على نظام القبيلة من خلال كسر لنمطية الحياة السائدة في القصيدة الجاهلية آنذاك واظهار الشعراء كأنهم غرباء في محيطهم يسعون الى تجاوز الواقع والوعي القائم نحو وعي يؤكد اغترابهم الروحي والإجتماعي، ورفضهم لما هو فعلي، من خلال دراسة لقصيدة الشنفري التي تناولت الشعور بالفشل بسبب غربته الاجتماعية عن قومه وإحساس باللاانتماء وتحركه المتمرد على ذلك، كالحث على الرحيل إلى عالم الوحوش والفرادة أمام جماعية الفكر في الإبتكارعبر الرؤية وفي نصه الفني.
كما قدم محمد باهي دراسة تحليلية لتغيير البنية المكانية في رواية L’insoumise de la porte de Flandres للروائي فؤاد العوري وبعد أن أظهر الهوة بين مكانين غير متجانسين في بروكسل، الأول حيث يسكن المهاجرون والآخر حيث يقيم البلجيكيون ، حلل الدكتور اشكالية الإغتراب والرغبة والصعوبة في الإندماج لدى الشخصية الرئيسية في الرواية، فاطمة، الثائرة على بيئتها ومعتقداتها.
حاورت اليان سعادة روايتين بوليسيتين تناولتا الهجرة غير الشرعية وهما L’Archipel du chien للكاتب فيليب كلودال وEntre deux mondes لأولفيه نورك، ومن خلال الجرائم الواقعة بحق المهاجر، تبيّن الباحثة فقدان الحقوق الإنسانية لدى المهاجر غير الشرعي والتهميش والاحتقار الذي يعاني منه من خلال دراسة المأساة التي تتجلى في قدره المحتوم وفي هويته المعدومة ككرامته، وقد قامت بدراسة الشخصيات في الروايتين ودور الخطاب السياسي-الإجتماعي كالرأسمالية والحروب والبزنس من خلال المتاجرة بهم، والإحساس بالعجز لدى القوة الأمنية للبلد المستضيف.
كما درست يسرا صبرا الاقتراض اللغوي لبعض المصطلحات عبر الحضارات، من خلال تيبان أصول هذه المصطلحات وتحليلها، وتعريف آلياتها الداخلية كالنحت والإشتقاق لإظهارالإضافات التي لحقت المعاني المستجدة، وبين الدخيل المادي والبنيوي قامت باظهار اندماج الكلمة الدخيلة أو المقترضة ومعانيها باللغة المستضيفة من الناحية الصوتية والنحوية والدلالية والشكلية...كما درست العوامل التي تسبب استعمال الكلمات الدخيلة على لغة ما كالفوارق المعنوية والكلمات التجارية والعولمة وطريقة التداخل لكلمة في لغة أخرى.
كما تطرقت د. خلود الدمشقي لظاهرة الإكتئاب التي تسببها الهجرة من خلال دراسة المكان ورهاب الإنغلاق claustrophobic في ثلاث روايات لكافكا وكامو والطيب صالح وهي :التحول، والغريب، وموسم الهجرة الى الشمال، حيث تظهر إشكالية المكان عند الشخصيات الرئيسية وصراعهم الداخلي ورفضهم للتأقلم مع بيئتهم ومع العالم الخارجي والمعاصر مع كل ما يحمله من مآسي للبشرية كالإستعماروعدم المساواة بين الشعوب، والتقوقع في غرفهم واحساسهم بالإحباط والإستلا،ب والتفكك الظاهر في تحوّل الشخصية الى حشرة أو سجين. كما قامت الدكتورة بدراسة رمزية المكان والزمان chronotope ورهاب الإنغلاق.
تناولت ملاك دعكور المكافحة القانونية للهجرة غير الشرعية خاصة في ظل العولمة، وبعد أن حددت مفهوم الهجرة غير الشرعية واختلافه عن مفهوم اللجوء والنزوح، أظهرت المخاطر التي تحدق من خلال هذه الهجرة كمثل الجريمة المنظمة، ودرست الاطر التشريعية للهجرة غير الشرعية والبروتوكولات المتبعة للحد منها ولتنظيمها.
قدمت صفاء فحص دراسة عن التناقض الهجيني في الهوية الأميركية اللبنانية وبعد التعريف لمعنى الهوية والهجين وأنواعه وأسبابه وعلاقته الوطيدة بالهجرة لان الثقافة الهجينة تنبثق من الإختلافات الثقافية الممزوجة ببعضها في المجتمع المستضيف وما يخرج منها من هوية واحدة وجماعية، ونموذج اجتماعي جديد خاصة في بلدان كالولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا، وتطرقت الى مسألة الحدود والجسورالمرسومة في البلد نفسه ما بين الشعوب الأصلية والشعوب الهجينة وما ينتج بينها من عنصرية وتقوقع ورفض للآخر وفوارق في العادات والتقاليد وأخذت نموذجا الدياسبورا اللبنانية الأميركية .
وتناول د. توفيق سلوم مفهوم الهجرة والأسباب التي أدت الى تزايدها بشكل ملحوظ منذ عدة عقود والربح الذي حققه اللبنانيون خاصة في أفريقيا مما عزز من قوامها، كما توقف الدكتور عند دوافعها ونتائجها على الفرد كاطار الأكثرية والأقلية، مسألة الإنتماء، ثنائية الوطن، الإنفتاح على الثقافات... ثم قدم دراسة نوعية لاستقراء معرفةٍ أولية بصِلة اللبنانيين الشباب بالهجرة.
كما تناولت ريتا الشباب مفهوم المكان والصلة كرؤية للهجرة، وبعد تقديم دراسة عن الهجرة وتداعياتها النفسية على المرء وعلى الأجيال، قدمت المفاهيم النفسية والنظرية للإضطرابات التي تنتج عن الهجرة مثل أزمة الهوية واللغة والثقافة وأثرها على المهاجر داخليا وخارجيا ومع محيطه الجديد والمكان (الذي هاجره والذي يبحث عنه) ومسألة الصلة التي قطعها معه والصدمات النفسية والإحساس بفقدان الموضع والغربة نسبة لدرجة تأقلمه مح محيطه الجديد والأمراض النفسية الناجمة عن الإغتراب كإنفصام الشخصية، ومن ثم قامت بدراسة سريرية لمهاجرة من أصول لبنانية.
قامت د. كوليت أبي فاضل بدراسة اجتماعية للهجرة من لبنان الى العالم الخارجي من خلال عيّنة لخمس قرى لبنانية هاجر أبناؤها، وقامت بدراسة الخصائص الإجتماعية للمهاجرين من حملة شهادات، وأشارت إلى وضعهم الاجتماعي من ناحية الزواج أو عدمه، وإلى البلدان التي اختاروا الهجرة اليها، وارتباطهم ببلدهم الأم وحركة التحويل والإستثمار فيه.
كما درست ملاك بزي هجرة الأدمغة اللبنانية كالأطباء، أطباء الأسنان، الممرضين، الصيادلة، والمهندسين والمحامين وأثرها ودلالتها الإجتماعية السلبية والإيجابية على لبنان وعلى البلدان المستضيفة ، كما أحصت نسب المتخرجين والمهاجرين منهم.
ودرست مارلين يونس الأبعاد الثقافية للهجرة، من ثقافة الأصالة الى ثقافة الحرية من خلال دراسة فلسفية لمفهوم الهجرة لدى الإنسان المستنير بثقل الحضور الإنساني، وعددت مفاهيم الهجرة من الناحية الفلسفية من اللا وطن الى مدينة الوجود، وهجرة المكان التي لا تعني فقط التخلي الجسدي بل الديالكتيكية التي تسمح بالرقي الى مملكة الأفكار الموعودة والوطن الحقيقي والإنصهار الثقافي الذي يدعو الى التعدد الثقافي والهجرة الدينية والتيه العقلاني في ظل غياب الفكر والمعرفة والأصالة والجوهر والهوية في المجتمع الإستهلاكي بسبب هجرة الوعي الأخلاقي كما الوعي التعيس ومفهوم الإغتراب عن نفسه.