أعطَت عازفة البيانو مارتا أرغيريتش إشارة مسبقة لِما حدث البارحة. فقد اعتذرت الشهر الماضي عن عدم المشاركة في لجنة تحكيم «مسابقة شوبان» العريقة، بداعي مرض الصديق الأعز على قلبها، زميلها في المهنة، البرازيلي نيلسون فرايري (1944). أرغيريتش تكبره بنحو ثلاث سنوات، وهو رفيقها وشريكها في بعض التسجيلات (أعمال تتطلب عازفَي أو آلتَي بيانو)، وهي تعتبره شقيقها الأصغر، وعليها احتضانه، حتى في خريف العمر، لأنّ جسده شاخ، لكن محيّاه بقي طفولياً بريئاً. وإذا كانت مقولة «من سِمائهم تعرفونهم» فيها شيءٌ من الصحّة، فيمكن رؤية قلب هذا الرجل من خلال النظر إلى وجهه الطيّب الملامح.البرازيل تعتبره سفيرها الأول إلى العالم في مجال العزف الكلاسيكي على البيانو. وعلى نطاق القارّة، هو أحد أبرز وجوه أميركا اللاتينية إلى جانب صديقته الأرجنتينية مارتا (1941) والتشيلي الراحل كلاوديو أراو (1903 — 1991) وقلّة غيرهم. فبعد «الأمّهات المؤسِّسات» للبيانو الكلاسيكي في البرازيل، أي ماغدا تاغليافيرّو (1893 — 1986) الفرنسية الأصل وغيومار نوفايس (1895 — 1979)، كان فرايري حامل شعلة بلاده، إلى جانب زملاء له، مثل جواو كارلوس مارتينز (1940) الذي عرقل القدَر مسيرته الواعدة، وخادمة الريبرتوار البرازيلي كريستينا أورتيز (1950) وغيرهما.
نلسون فرايري بدأ صغيراً جداً في تعلّم البيانو وبدأ بالظهور الحيّ وهو لا يزال طفلاً في الرابعة. في عمر المراهقة كان قد أصبح عازفاً مكتملاً، يلاقي الأوركسترات ويدخل استوديوهات التسجيل، وقد استمر هكذا حتى منتصف السبعينيات، عندما انكفأ لربع قرنٍ، مكتفياً بنشاط محدود (بشكل أساسي تسجيلاته مع أرغيريتش، المشار إليها أعلاه)، قبل أن يعود إلى المرحلة الأنضج والأغزر في مسيرته، عندما وقّع مع شركة Decca، على أبواب الألفية الجديدة، عقداً أحدَثَ ضجة كبيرة آنذاك، مفتتحاً الفصل الجديد بمجموعة تسجيلات قيّمة. في عودته إلى الساحة الفنية، ركّز فرايري على الريبرتوار الأقرب إلى قلبه، أي المؤلفين الرومنطيقيين (شوبان، بيتهوفن، برامز، شومان، لِيسْت،…) بالإضافة إلى بعض الأعمال للفرنسي دوبوسي ولشيخ المؤلفين البرازيليين فيلاّ-لوبوس وللنروجي غريغ وغيرهم. عام 2016، أدى قسطه للعلى من خلال تسجيل مجموعة من الأعمال لمؤلف لطالما غاب عن ريبرتواره، ونقصد باخ، الذي أدّى له مقطوعات متفرّقة وعملَين أساسيَّين (الـ«بارتيتا» رقم 4 والمتتالية الإنكليزية رقم 3). هذا النجاح الذي حققه في العقدين الأخيرَين أعاد إلى الجمهور تسجيلات فرايري القديمة، التي تحوي عدداً من أبرز كونشرتوهات البيانو (تشايكوفسكي، رخمانينوف، بروكوفييف، شومان، شوبان،…) في تعاونٍ مع كبار قادة الأوركسترا مثل رودولف كامبه وكورت مازور، وكذلك بعض تسجيلات البيانو المنفرِد للمؤلفَين الأساسيَّين في ريبيرتواره: برامز وشوبان.
ترك نيلسون فرايري إرثاً أساسياً في مجال البيانو الكلاسيكي من باخ (النصف الأول من القرن الثامن عشر) حتى لوتوسوافسكي (القرن العشرين)، قبل أن يترك الأرض باتجاه المطلَق، حيث سيكون له نقاشات حامية مع موزار حول أسباب تهميشه الكامل لعالمٍ من التحف التي خصّ بها الأخير البيانو.