لا مجال للخطأ عند الحديث عن الأفلام المقتبسة عن الكوميكس: إنها الدجاجةُ التي تبيض ذهباً لأي شركةٍ أنتجتها. سواء كانت تلك الشركة سوني، مارفل، دي سي، أو أياً كانت. ولا تشذ سلسلة «الرجل العنكبوت» وفيلمه Spider-Man: No Way Home الذي يعرض في صالات السينما عن هذا الأمر البتة، بل إنّها تتعداه لكونها فاتحةً لسلاسل أفلام من هذه السلسلة أو سواها. إننا لا نتحدّث هنا عن سلاسل قادمة لتوم هولاند (البطل الحالي للفيلم) بل عن عودة لآندرو غارفيلد (بطل السلسلة السابق 2012-2014) وتوبي ماغواير (بطل السلسلة الأسبق 2002-2007) اللذين شاركا في هذا العمل الحالي (ولا نحرق الأحداث لمن لم يشاهدوا الفيلم بعد). إنها ببساطة الحكاية الكلاسيكية التي ألفها الراحل ستان لي، وبات يعرفها الجميع: تلميذ المدرسة الثانوية، الذي تقرصه عنكبوتٍ معدّلة جينياً، لتجعله بطلاً خارقاً، يمتلك صفات «العنكبوت» وإن مضاعفةً بشكلٍ هائل. ومن هنا تخلق الشخصية التي تكنى بـ «الرجل العنكبوت». هذه القصّة التي قدّمها الجزء الأوّل من الفيلم الحالي Spiderman: homecoming (2017) في ما يسمى reboot حيث تلجأ الشركات لتقديم بطلها بطريقةٍ من البداية بشكلٍ مختلف لأسبابٍ متعددة: كأن يشيخ البطل، أو يستهلك أداءه، أو حتى لمقاربة أجيالٍ جديدة من عشاق الشخصية والكوميكس أو كلّها معاً. هذا الأمر والذي تفعله –وستظل تفعله- شركات الكوميكس؛ فعلته مارفل في السابق مع أندرو غارفيلد، وأعادته مع توم هولاند في الجزء الأوّل من السلسلة الحالية في العام 2017. لكن ما تفوّق به البريطاني خريج مدرسة Brit البريطانية الشهيرة للفنون الادائية، أنه شارك في عددٍ من أفلام مارفل الثانية بشخصيته كرجل عنكبوت، كمشاركته في أجزاء فيلم «الأفنجرز» المتعددة أو حتى ظهوره «المسبق» في الشخصية في فيلم «كابتن أميركا»: أول «الأفنجزر» في العام 2016. ما الجديد إذاً هذه المرّة: يعرف متابعو الأجزاء السابقة أن شخصية سبايدرمان «السرية» كانت قد كشفت، بعد صراعه في الجزء السابق Spiderman: far away from home مع الشرير المسمى كوينتن بيك والشهير بإسم ميستيرو (لعب الدور جاك جلينجهال).
يسعى بيتر باركر (الشخصية السرية لسبايدرمان) لجعل الناس ينسون من هو عبر طلب المساعدة من الساحر الأسمى، الدكتور ستيفن ستراينج (يؤديه البريطاني القدير بينديكيت كامبرباتش)، الذي تزامل وإياه سابقاً في مغامرات «الأفنجرز» السابقة. طبعاً وكعادة استخدام السحر في الكوميكس: إنه دائماً يأتي بثمن. تتعقّد الأمور بشكلٍ كبير وتصبح أكثر تعقيداً حينما يعرف بأن هناك عوالم متوازية، وهي متعددة، وفي كل منها هناك بيتر باركر مختلف. ولكل بيتر باركر «أشراره» الخاصون، وهو ما يحصل فعلاً: أشرار بيتر باركر الآخرون يظهرون، ولحسن الحظ تظهر كذلك نسخ «سبايدرمان» الأخرى للمساعدة. فيظهر بيتر باركر (توبي ماغواير) وبيتر باركر (أندرو غارفيلد) اللذان يلتقيان ببيتر باركر الجديد (توم هولاند). توبي ماغواير الذي يحبه عشاق الشخصية كثيراً لأسبابٍ كثيرة أبرزها أنّه كان أوّل من جسّد الشخصية على الشاشة الكبيرة، وقدّمها كما يحلم عشاقها. الفتى الصغير، الذي يعشق جارته/ زميلته في الدراسة إم جي (مار جاي واتسون) التي قدّمتها كريستين دانست نسخةً عن مثيلتها من الكوميكس بشعرٍ أحمر، وغضبٍ، مع جملتها القصيرة التي تنادي باركر بها: «كيف حالك أيها النمر». وهو ما خالفه بيتر باركر (توم هولاند) بنسخته الحالية، مع ماري جاين خاصته، التي أدت دورها الممثلة السمراء زيندايا، وهي أوّل ماري جاين واتسون ملونة في تاريخ الشخصية (في الكوميكس أو على الشاشة). أندرو غارفيلد بدوره أحبه المشاهدون كثيراً، وإن بدرجة أقل من زميليه، لكن العلاقة التي جمعته مع ايما واتسون التي أدت في العمل شخصية «غوين ستايسي» -واقعياً وفي الفيلم- جعلته شخصياً من الأقرب إلى الجمهور الأنثوي للشخصية. فهو عاشق مكسور فشل في إنقاذ حبيبته. لقد كان الأكثر رومانسيةً بين الثلاثة: وكانت النهاية المأساوية لحبيبته إضافة مهمة لتكريس هذه الشخصية ضمن هذا الإطار. ماذا إذاً عن توم هولاند؟ أضاف هولاند إلى الشخصية الكثير من الصفات التي افتقدتها في السابق: إنه «طفل» فعلاً، ولا يدعي الشباب والطفولة كما سابقيه. سمحت سن هولاند الصغيرة إذ كان في الـ 19 من عمره، حين دخل إلى عالم الشخصية، أن يقدّم شخصية «سبايدرمان: جاركم وبطلكم الودود واللطيف» وهي الجملة الشهيرة التي تقولها الشخصية وهي تحيّي سكان مدينتها. يضاف إلى هذا، ملامح هولاند التي أضافت إلى ذلك الكثير، فضلاً عن أنه في الجزءين الأوليين من الفيلم، لم يواجه أشراراً ذوي أبعاد «نفسية» معقدة كالذين واجههم ماغوير وغارفيلد. إذ كان أشراره «لطيفين» بعض الشيء: أدريان تومييز أو «العُقاب» (مايكل كيتون) الذي كان «لطيفاً» معه للغاية، إذ لم يكن شريراً بالمعنى الحرفي للشرير، ولم يكشف عن شخصية سبايدرمان السرية التي عرفها، فيما كان شريره الثاني «ميستيريو» شخصاً أفاقاً مدعياً غاضباً لا أكثر ولا أقل. في هذا الجزء ربما ولأوّل مرة يواجه أشراراً خطيرين: العفريت الأخضر (القدير للغاية وليام دفو) الشرير ذو اضطراب الشخصية المزدوجة الذي يقتل بسهولة ويؤذي بسهولة أكبر. وفي إطار دعم الشخصية أكثر، دعمت الشخصية بإضفاء الكثير من الشباب على ماي عمّة باركر، التي أدتها ماريسا توماي صغيرة السن، عكس الشخصية التي قدمتها في السابق سالي فيلد (في أجزاء أندرو غارفيلد) وروز ماري هاريس (في أجزاء توبي ماغواير) اللتان قدمتا شخصية العمة ماي كبيرة السن، والأشبه بالأم/ا لجدة منها بشخصية توماي الأقرب إلى الصديقة التي نراها تقع في الحب مع هابي هوغان(جون فافرو)، مدير شركة «صناعات ستارك» الذي أوكله توني ستارك/الرجل الحديدي (روبرت داوني جونيور) بحماية ومتابعة سبايدرمان في السابق، كونه صغير السن وغير ناضج في الأجزاء السابقة.
في الإطار عينه، تأتي فكرة العوالم المتوازية مع ما تحويه من تناقضات وتفاصيل. كانت شركة مارفل قد قدّمتها سابقاً ضمن فيلم الرسوم المتحركة عن سبايدرمان كذلك، Spider-Man: Into the Spider-Verse(2020) الذي قدّم سبايدرمان جديداً هذه المرّة هو «مايلز موراليس» (وليس بيتر باركر) لكن ذلك لم يمنعه من مقابلة عدّة نماذج من الشخصية من ضمنها بيتر باركر؛ ولكنه ليس أي بيتر باركر نعرفه، فهو لا يشبه أياً من الشخصيات الثلاث التي أدت الشخصية من قبل في الأفلام. نفس الفكرة ستقدّمها شركة «دي سي» المنافسة، مع فيلمها المرتقب بشدة، «البرق» (والمتوقع قدومه في العام المقبل)، حيث نشاهد الشخصية تقابل نسخها المتعددة والمنتشرة عبر «العوالم المتوازية».
إخراج بذل كيفن فيغ، جهداً كبيراً لتقديم فيلم يوازي نجاحات الجزءين السابقين، وأن يكون على مقدار آمال عشاق السلسلة، وهو ما نجح فيه بحسب ما تظهر الأرقام على شباك التذاكر، إذ إن الفيلم الذي يمتد على 148 دقيقة، قد حقق حتى اليوم، على شباك التذاكر، وفي أميركا فقط أكثر من 600 مليون دولار (فيما بلغت كلفته مئتي مليون دولار)؛ أي أنه تجاوز كلفته بثلاث مرات حتى اللحظة، وقد أشار كثيرون إلى أنه لن يسحب من صالات السينما قبل وصوله إلى رقم المليار فما فوق، وهو ما يستطيعه حسب المتابعين. ويذكر أن فيغ لوحده قد حقق أرباحاً على شباك التذاكر لشركة مارفل بما يقارب الست وعشرين مليار دولار أميركي (بحسب صفحته على ويكيبيديا).
يستحق الفيلم المشاهدة بالتأكيد، وهو من أهم انتاجات هذا العام السينمائية، ولا يهم رأي المخرجين المعروفين في هذا النوع من الأفلام، أو كما نقل عن المخرج المعروف مارتن سكورسيزي بأن «هذه الأفلام ليست أعمالاً سينمائية أبداً»، وهذا لا حق له به، إذ إن المجهود الهائل الذي يبذل في هذا النوع من الأعمال، فضلاً عن التقنيات والكم الهائل من «الصناعة» فيه، عناصر تجعله مرغوباً بشدة وترفع له القبعة احتراماً. يضاف إلى هذا أنَّ صنّاع هذه الأعمال باتوا أكثر حنكة، فصاروا يحضرون ممثلين يمتلكون حرفة الأداء كالبريطانيين غارفيلد وهولاند، القادمين من مدارس أداء متميزة.

* Spider-Man: No Way Home في الصالات