عندما تسمع اسم رام الله التحتا تقفز الى ذهنك فورا الأحياء القديمة في حارات، الشقرة، دار جريس، دار ابراهيم، القديرة، والحرجة، وشوارع مثل، السهل، البلدية، دار ابراهيم، ودير الروم، وغيرها، بمبانيها ومعالمها التاريخية ومحالها التجارية العتيقة.تبدأ رام الله التحتا، منذ اجتياز كنيسة دير الللاتين، في الشارع الرئيسي نزولا باتجاه الغرب، لتنتهي عند تخوم بطن الهواء، وسرية رام الله الأولى، وتتفرع الى الشمال والجنوب لتشمل مبنى بلدية رام الله الحديث جنوبا، وحتى شارع ومنطقة عين مصباح شمالا.
هنا في هذه الحارات، ذات البنايات القديمة، تأسست رام الله، منذ القرن الثامن عشر، ومنها انطلقت عائلات رام الله إلى المهجر في أميركا غالباً، منذ اربعينيات القرن الماضي، أو إلى أحياء جديدة في فترة الثمانينيات وما بعدها من القرن الماضي، في الطيرة والماسيون وغيرهما.
في هذه المنطقة، التي شهدت تغيرات كثيرة، مثل غيرها من مناطق وشوارع رام الله، يكاد عارفها، ان يضل طريقه، و«يتوه» في معالمها، إذا غاب عنها لسنتين او أكثر، حتى لكأنه يراها للمرة الأولى.
سرتُ في رام الله القديمة وبين أزقتها، في حارتيْ دار جريس والشَقَرَة، برفقة الشابين أحمد جبارين، وعبد صابر، وهما العارفيْن بكل تفاصيلها، فتذكرت قول المتنبي عن شِعْبِ بَوّان (ولكن الفتى العربي فيها × غريب الوجه واليد واللسان)، ولكني لم أكن غريباً عنها تماماً، فقد عشتُ فيها، تحديداً في حارة الشَقَرَة، في عام 1969 أثناء دراستي الثانوية، وبالتالي لم أكن غريب «اللسان» على الاقل.
ابتدأتُ جولتي، من حارتي القديمة، حارة الشَقَرَة، فكان أول ما مررتُ به في طريقي إليها، ورشة لتصليح الآلات الموسيقية الوترية (الكمنجة، الفيوللا، التشيللو، الكونتراباص) في محل اعتدت أن اقص شعري فيه، عندما كان صالونا للحلاقة للرجال في عام 1969.
الشاب شحادة نبيل شحادة الشلالالدة، الذي يحمل اسم جده، يقوم بهذا العمل ضمن مؤسسة الكمنجاتي الموسيقية، تلقى تعليمه على هذه المهنة، في احد جامعات بريطانيا، وذكرني بجده الذي زاملته في السجن الإحتلالي (1974 – 1976).
اما اللقاء ذو النكهة التاريخية فكان مع غانم مزعل الفروخ، أبو أنور، ويقترب من التسعينيات من عمره، أو ربما يتجاوزها بقليل، الذي سكن رام الله القديمة، منذ العام 1942، في بيت كان يملكه سالم سمعان، من أهالي رام الله، وروى لي بصوته الواهن قليلا، كيف ومتى تم بناء أقدم جامع في رام الله في الخمسينيات من القرن الماضي، مقابل كنيسة دير تجلي الرب للروم الأرثوذوكس، وصار يعرف لاحقا باسم الجامع العمري، الذي جرت توسعته مرات عدة، كان آخرها منذ بضعة أعوام خلت، ليواكب التغيرات الديموغرافية التي طرأت على المنطقة، فازداد وتضاعف رواده مرات عدة.
في البيت الذي سكنتُه في عام 1969، وكنت في المرحلة الثانوية من دراستي في مدرسة رام الله الثانوية للبنين، كان ملكا لدار أبو عيسى اللوصي، من أهالي رام الله، فصار الآن ملكا للسيد محمد ابو عرام (الفروخ)، حيث تم إدخال تعديلات عليه، ويجري إضافة بناءٍ حديث إليه.
كان يجاورني في ذلك الوقت، بيت عائلة الزيبق، الذي تبرع به أصحابه لبلدية رام الله بعدما هجروه إلى منزل حديث، فقامت البلدية بترميمه وإعادة تأهيله، لتشغله مؤسسة تامر المجتمعية لأدب الأطفال، أما الآن فصار يعرف باسم «بيت الفنانين»، يجاوره، في بيت قديم ايضاً، ذي أبواب تفتح على الشارع مباشرة ورشة فنون الحرف التقليدية، وفي المقدمة منها «التطريز الفلسطيني» المعروف بجماله وألوانه المستمدة من الطبيعة، ودقة خيوطه.
الحاج عبد الهادي طالب الشلالدة، أقام منزلاً حديثاً له بطوابق عدة، مكان بيت قديم، وهو أمر حدث هنا في اكثر من شارع ومكان.
أسماء عائلات رام الله القديمة، التي بنت وسكنت في هذه المنطقة، لم يعد لها وجود، وحلت مكانها أسماء عائلات من بلدتي الظاهرية وسعير في منطقة الخليل، في غالبيتها العظمى.
استبدلت اسماء عائلات من رام الله مثل «العسعس»، «زايد»، «فرمند» وغيرها، بأسماء من عائلات الظاهرية وسعير، مثل جبارين، جرادات، الفروخ، وعوايصة، على سبيل المثال، لا الحصر.
يكاد يقتصر ساكنوا رام الله القديمة (حارتيْ الشَقَرَة ودار جريس)، على عائلات وفدت الى المدينة منذ سنوات عديدة خلت من الظاهرية وسعير، وفي حالات نادرة، من مناطق أخرى، لعل أهمها من بيت اكسا في منطقة القدس.
على يسار الداخل الى حارة الشقرة من شارع البلدية، يربض مبنى البلدية القديم، حيث تشغله الآن مؤسسة «اتحاد ابناء رام الله»، وقبل ذلك اشغلته شرطة المرور لفترة من الوقت.
مقابل ذلك المبنى، تقع دار الأنقر، التي تنطق حجارتها وشكل بنائها المعماري بتاريخ تليد، وتشهد على حياة حافلة عاشتها في زمن مضى.
دخلتُ برفقة، أحمد وعبد، الى «زواريب» غاية في القدم، في حارتيْ دار جريس والشَقَرَة، وبعضها أدخله للمرة الأولى، وكأنني أكتشفها، وهما يشرحان لي عن البيوت وساكنيها، لمن كانت، ولمن آلت.
البيوت لم تعد ملكاً لمالكيها الأوائل، والشوارع صارت «مبلطة» وجرى توسعة بعضها حيث تسمح المساحات بذلك، واختلطت وتداخلت المباني القديمة، ببنايات حديثة، وفي بعض الأحيان جرت اضافة بناء حديث للمبنى القديم نفسه، ليناسب الحاجات المستجدة، فترى «الحداثة» هنا، تختلط بالأصالة.
لعل من أهم المعالم الحديثة الآن في حارتي الشقرة ودار جريس، مؤسسات فنية مثل، بيت الفنانين، الكمنجاتي، ورشة فنون الحرف التقليدية، وورشة تصليح الآلات الوترية التابعة للكمنجاتي.
في بيت قديم في حارة دار جريس، يطالعك فرن قديم ما زال يعتمد الحطب في إعداد خبزٍ شهيّ، وأكلات فلسطينية تقليدية مثل «القِدْرِة»، يملكه ويديره السيد محمد سميح، بعد ان تتخطى حدود حوش قندح بقليل.
رام الله التحتا تضم في جنباتها معالم دينية، اقتصادية، وتعليمية، بعضها اندثر مثل «مدرسة رام الله الابتدائية»، التي حل مكانها مرآب للسيارات، ومدرسة الروم الأرثوذوكس التي انتقلت الى حي الطيرة، وصارت تعرف باسم مدرسة «سان جورج»، ومدرسة رام الله الإعدادية التي حل مكانها نادي اسلامي رام الله، لكن غالبيتها ما زالت قائمة تشهد على تاريخ غابر، مثل مدرسة الروم الكاثوليك، مدرسة راهبات مار يوسف، كنيسة دير تجلي الرب (أقيمت في عام 1850)، الجامع العمري، مبنى البلدية القديم، سوق خضار رام الله القديم، النادي الإسلامي، مبنى بلدية رام الله الحديث، مدرسة الفرندز للبنات، ومدرسة هواري بومدين الأساسية المختلطة (حكومية)، ومبنى المحكمة العثمانية، الذي رممته بلدية رام الله، وجعلته مكتبة ومركزاً للأطفال، وما زالت هناك معصرة الرنتيسي لعصر الزيتون تمارس نشاطها في المواسم .
أما المكان الذي يعرف باسم «الحرجة»، وكان قسمٌ منه أرضا خالية من العمران، حيث تقع محطة محروقات رمزي جابر، وموقفا للحافلات لقرى غرب رام الله، إضافة إلى موقف حافلات شركة باصات رام الله، فقد حل مكانها مبنى من طوابق عدة للبنك العربي، فيما صار موقف حافلات شركة باصات رام الله مهجورا بعد تصفية الشركة، إثر قيام الإحتلال الإسرائيلي، بإحاطة القدس بالأسوار ومنع الشركة من تسيير حافلاتها إلى القدس، ناهيك عن منع المواطنين من دخولها، وإقامة حاجز احتلالي على مدخلها الشمالي، قرب مخيم قلنديا.
رام الله التحتا، لها نكهة خاصة، يعرفها من سكنها وارتاد مقاهيها واختلط بساكنيها، تختلف عن أي مكان آخر في المدينة الأكثر شهرة في الضفة الغربية، وهي ما زالت تحتفظ بعراقتها وغالباً بمبانيها وعمرانها، رغم ما جرى من تغيرات على الكثير من معالمها، واتجاهات شوارعها.