تستحوذ نبتة القمح على اهتمام العالم بأسره بسبب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. يسود الخوف من أن ترتد مفاعيل هذه الحرب على الأمن الغذائي العالمي، بخاصة أن هاتين الدولتين تُصدّران كميّات كبيرة من القمح إلى الأسواق العالمية. بدأنا نسمع حكومات عديدة تُعبِّر عن خشيتها من عدم توافر مخزون كاف من الحنطة في صوامعها لتأمين حاجة الشعب من الخبز والمعجنات. فما هو سر نبتة القمح ولماذا تكتسب كل هذه الأهميّة؟ وفقاً لكتاب «غرائب اللغة العربية»، يعود أصل كلمة قمح إلى «قمحو» المأخوذة من اللغة الآرامية. يُعتبر القمح غذاءً كاملاً يحتوي على كميّة عالية من البروتينات والنشويات والألياف، بالاضافة إلى الأملاح المعدنية والفيتامينات. كان المصريون القدماء يقيمون أعياداً للقمح ويقدمونه قرباناً للآلهة. وقد نُقشت على جدران المعابد المصرية مشاهد تُصَور زراعة القمح ووُجدت بذوره في بعض المقابر القديمة في عهد الفراعنة. وكان المصريون كذلك يخبزون كميّات ضخمة من الخبز المصنوع من الحنطة لإطعام العمال الذين يبنون الاهرامات الخالدة. وكان هذا الخبز كافياً لإمدادهم بالطاقة لإنجاز هذه الأعمال الضخمة. أما أصل القمح، فهو غير معروف تماماً مثل العديد من النباتات المزروعة، لا سيما الشعير والفول والذرة، وهي تعتبر في مختلف الحضارات القديمة هديةً من الآلهة مرتبطة بهِبة الحياة نفسها.
أسبغت الحضارات القديمة في حوض البحر المتوسط وبلاد ما بين النهرين، هالة قُدسية على نبتة القمح. وقد ذُكر في «موسوعة الرموز» (Dictionnaire des symboles) أنه خلال الاحتفال بالاتحاد المقدس بين الإله زوس والآلهة ديميتير عند الإغريق، كانت حبة قمح توضع في وعاء القربان المقدس كي يتم تأملها بصمت والتفكير بأسرار الخلق. ترمز طقوس التأمل هذه الى استمرارية الفصول وتعاقبها وعودة مواسم الحصاد وتناوب موت حبة القمح وانبعاثها من جديد، فحبوب سنبلة واحدة تموت لكي تملأ الحقل سنابلَ. من خلال هذا التأمل، يُبجّل المؤمنون ديميتر الآلهة الراعية للحبوب والمحاصيل الزراعية، وهي ايضاً آلهة الخصوبة التي تُلقنهم أسرار الحياة. وقد منحت ديميتير الشعير للانسان وأرسلت الشاب تريبتوليم ابن ملك إيلوزيس لنثر القمح في العالم. وكانت عبادة ديميتر هي الضمان لاستمرار دورة الحياة وزيادة المحاصيل، وكان الناس يخشون غضبها لانها عندما تستاء، تفقد الأرض خصوبتها. ولهذا كانوا يحرصون دائماً على إرضائها. وغالباً ما كانت تتم مقارنة رحم الأم بحضن الارض التي تحتضن الحبة وتُمكِّنها من النمو. ويبدو جلياً أننا يجب أن نبحث عن المعنى الديني لسنبلة القمح في هذا التناغم بين الحياة الإنسانية والحياة النباتية اللتين تتعرضان لتقلبات متشابهة. عندما تعود حبة القمح، الثمرة الأجمل من بين كل الحبوب، إلى كنف الأرض، تُشكِّل وعداً لنا بحياة جديدة وسنابل مليئة بالخير.
الاحتفاء أيضاً بموت وانبعاث حبة القمح رافق أيضاً شعائر عبادة ديونيسيوس إله الخمر والكرمة. تقول الأسطورة إنه حال ولادة ديونيسيوس، وُضع فى مذراة قمح. كذلك، تعتبر سنبلة القمح شعار موت الإله المصري أوزوريس وقيامته من بين الأموات. وفي «كتاب الموتى»، يقول أوزيريس إله العالم الغربي عن نفسه: «أنا اوزيريس اعيش كحبة قمح وأتيت كحبة قمح». لذلك كان الفلاحون المصريون، خلال مراسم الاحتفال بأوزيريس وبدء الدورة الزراعية، يصنعون تماثيل من طين تُمثله ويضعون فيها حبوب القمح. وكانت حبوب القمح تُسقى، فتنبت سيقانها الخضراء بعد فترة وجيزة في إشارة إلى بعث أوزيريس مرة أخرى وقيامته من بين الأموات.
كان الرهبان عند اليونان والرومان ينثرون حبوب القمح فوق رؤوس الأشخاص الذين ستتم التضحية بهم قرباناً للالهة. وهذا الطقس يكون بمثابة إلقاء بذرة الخلود على الضحايا ووعد لهم بحياة جديدة بعد الموت. في الديانة المسيحية، ترمز حبة القمح لقيامة الأجساد بعد موتها. ونجد الخبز في الإنجيل، وقد ورد في الإصحاح السادس والعشرين «فيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي». كما يُقال إنّ القديسة بربارة حين هربت من والدها الوثني، اختبأت بين سنابل القمح. لذلك، يحتفل المؤمنون بأكل القمح المسلوق ليلة عيدها. أما في القرآن الكريم، فقد ذُكر القمح سبع عشرة مرة، وهو يُعتبر رمزاً للخير والبركة ومضاعفة الأجر. وقد أنقذت نبتة القمح حياة آلاف الناس في مصر من المجاعة التي ضربت البلاد خلال السنوات السبع العجاف. وقد علّم النبي يوسف المصريين، بفضل الوحي الإلهي، كيفية حفظ وتخزين القمح من خلال ترك الحبوب في سنابلها، فبقيت سنوات عديدة من دون أن تتلف.
استعان شاعر المقاومة والأرض محمود درويش برمزية حبة القمح للدلالة على الشهداء الذين سقطوا من أجل فلسطين ومنحوا بتضحيتهم الحياة للوطن. وقال عن الشهيد: أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية وفي موتي حياة.
لقد ارتبط القمح إذن بالحياة واستمراريتها والبعث بعد الفناء وهو الغذاء الأساسي والضروري للإنسان. فلا عجب إذاً أن يُساور القلق الدول وأن تتصارع في ما بينها من أجل تأمين قوت شعوبها. أما الأمّة التي لا تنتج قمحها وحبوبها، فستعاني الأمَرَّينِ خلال الحروب والأزمات.

.