السايبر .._ يا رعد .. ما بالك تغلق باب السكوت على ذاتك، ما به الفتى العشريني يرتدي وجهه التجهم، والشباب إلى الصخب يميل وهو أقرب.. أضاقت بك أزقة المخيم في جنين؟
كان رعد ممدداً على سريره، وكان النهار مال إلى الإنتصاف، لم يعتد والده عليه هكذا.
_ ما بال السايبر تبدل من حال إلى حال، أين ذاك الشاب النشيط المثابر، الممتلئ بالنشاط، أين تلك الإبتسامة العريضة التي كانت تمسح وجهك بالطيبة؟.
السايبر هو لقب رعد الذي أطلقه عليه أصدقاؤه لبراعته في مجال الإلكترونيات والأدوات الكهربائية، وعلوم الحاسوب والبرمجة، لكنه وإن كان كذلك إلا أنه دائم الصمت، مقتضب حديثه ومختصرة نقاشاته مع أصدقائه واهله. ورعد من أسرة مكونة من خمسة ذكور وثلاتة إناث، وهو أخ حنون مع اخوته، محبا متسامحا مع أصدقاءه ومعارفيه.
نظر رعد إلى وجه أبيه المتعب .. إلى جفونه المثقلة بالهموم وقال له
_ لا يا والدي، إن أزقة المخيم ملاعب طفولتي ووعاء حزني ونشأتي وفرحي فكيف تضيق بي؟
اقترب الأب من ابنه وقال له بنبرة رقيقة منسابة
_ إذا، ماذا جرى للسايبر حتى تبدلت حالته، منذ اسبوعين وهو على هذا الحال، أفيق في الليل فلا أجده، لا أعلم متى يعود، وفي النهار يبقى نائما؟ قل لي يا ولدي، ماذا جرى لك؟. يجيبه رعد بابتسامة حزينة : _ اطمئن يا أبي أنا بخير، لكن، هؤلاء الغرباء المطبقون على الأرض، إن هدير دباباتهم يقززني، أتعلم يا أبي، وأنا صغير، كنت أحس بأن الحيطان تتزعزع من جراء هذا الهدير، كان يملأ قلبي الرعب .. لقد ضقت من المطبقون على قلبي .. ضقت ذرعا بهؤلاء الغرباء الذين يطؤون ارضنا.
نظر والده إليه بوجه متجهم حائر، وفي صمته ألف حكاية عن فلسطين .. عن المجازر و الشتات .. عن أخيه الذي استشهد في جنوب لبنان على أمل العودة.. عن الشرائط الشائكة .. عن سرقة الأرض وتغيير المعالم .. عن الزيتون الذي صلى بين جذوعها وتحت أغصانها المسيح .. وقبة الصخرة ورحلة النبيين، والمسجد الأقصى والمصلين .. عن ميناء يافا وبئر سبع .. عن الإنتفاضة الأولى و إصابته واعتقاله، أو عن تهاوي حلم الدولة و زوج خالته الذي كان قائدا في حركة الجهاد واستشهد هو الآخر؟ كان على وجه أبي رعد يرتسم أيضا ألف حكاية عن الخيانة العربية والخذلان والجبن وارتحال الضمائر إلى السكوت الأبدي.
نظر رعد إلى وجه أبيه الباكي بصمت وكبرياء، نهض، وقف قباله والده، انحنى عليه وطبع قبلة على جبينه وأمسك يده وقبلها وقال له: ترضى علي يا أبي. اتجه إلى الحمام ليغتسل تاركاً والده في حيرة ووجوم يردد: «ألله يرضى عليك..ألله يرضى عليك». شرع يلبس ثيابه الجديدة وسط ذهول والده كمن عازم على أمر.. سرح شعره.. التقط قارورة عطر ورش ثيابه.. وقف أمام المرآة، نظر إلى ذاته، تأكّد أن كل شيء على ما يرام، فتح جاروراً مليئاً بالثياب غير مرتب، وأخرج من قعره مسدساً، وضعه إلى خصره من خلف وسوى وضع الجاكيت ثم قال لوالده:
_ يا أبي .. هل أنت راض علي؟
_ أنا راضي عليك يا إبني، ما هذا السؤال الغريب الذي ليس في وقته؟!
_ نفسي حزينة.. وأود الخروج، وأنا بحاجة لكلمة رضى
_ ليرض عليك الرحمن يا بني.. لا تتأخر.
وخرج رعد .. غاب خلف الباب.. صفقه ومشى..
خرج رعد من حدود المخيم المرمي بعيداً بعيداً عن يافا، رفع عينيه صوب السماء، التقط نفساً عميقاً من نسمة عابرة من نسمات نيسان هبت فجأة.. مشى وهو يتأمل المرتفعات المحيطة بجنين، الحاجبة وادي الجدي، مجتازة السهل لافعة جبنه شمس نيسان الدافئة، كانت وجهته تل أبيب، تحسس مسدسه..
مرت سيارة مدنية اسرائيلية يقودها حاخام، إلى جانبه حاخام آخر، كانت آتية من المدينة متهادية، وكان رعد وصل إلى تخومها، تباطأ في مشيته، وقف قبالة السيارة وحيّا الحاخامين بأدم جم، عناصر الحاجز الذي كان قريباً، شاهدوا الشاب والتحايا بينه وبين الحاخامين، مضت السيارة في طريقها وتابع رعد طريقه بإتجاه المدينة محيياً عناصر الحاجز وابتسامة مطمئنة تعلو شفتيه .. تخطى الحاجز المفصلي وأخذ يسير.. مشى لساعة وأكثر قبل أن يصل إلى أم الفحم، كان قلبه يخفق فرحاً مباغتاً، والقلق الذي كان يحسه تحول اطمئناناً.. كان يتأمل التراب والبيوت المتهادية وكان يشعر أنه ملك على هذا التراب وعلى هذه البيوت، بل على كل فلسطين.. ملك يتجول في أرجاء مملكته. أنت يا رعد الآن فلسطين... أنت القضية والقرار وكل الحكاية.
انحدر مع اسفلت الطريق ماشياً على الرصيف، مرت حافلة ركاب، أشار إلى السائق بالتوقف. فتح الباب وصعد. لم تكن الحافلة تتجه صوب القلب.. لم تكن الإطارات هي التي تدور.. كان رعد في تلك اللحظة قلب يخفق بقوة، وأفكاراً تداهمها أفكار، وضوء شمس فلسطين المائل يرسل ظلالاً من نعاس يهاجم عينيه، يغمضهما برهة ثم يفتحهما حين الهواء العابق بالزهر يلثم جبينه وأنفه وخديه.
توقفت الحافلة عند آخر محطة في تل أبيب، نزل ما تبقى من ركاب، وكان هو آخرهم، وراح يسير في الشوارع على غير هدى وينظر إلى الوجوه الوقحة والصلفة للمارة.. شباب وشابات ورجال أمن لم ينسجوا من تراب هذه الأرض، لا يتكلمون لغتها، هم جيل ارتضى أن يتمادى بجريمة آبائه، هم أبناء من أتوا واقتلعوا آباءنا وأجدادنا، وهدموا البيوت، من قال إن ليس للتراب ذاكرة وتحن لأصحابها؟ هم يطأون عنوة هذا التراب والتراب يإن ويتوجع، ونحن.. أصحاب الأرض نأن ونتوجع مع التراب. مسلوخون عن عناقه وهو يتوق لعناقنا.. سبعون سنة وهو يتوق لملامسة أقدام أطفالنا بحرية.. يتغلغل بين أصابعها العارية.
مالت الشمس إلى المغيب ورعد حازم في مقهى بزينغوف يلتهم سندويشاً من الجبن وهو يتأمل الرواد والمارة وهدير كلام يضج بداخله: كم وقحون هؤلاء المارة، هم يتلذذون بمشاهدة بؤسنا وانكسارنا تحت الشمس في إذلالنا على المعابر.. على صدر أرضنا هم جاثمون يرسمون حدود القهر بين مدننا.. سبعون سنة استشهد خلالها جدي وعمي وخالي غرباء وحزناً وقهراً.. ها أنا على باب الوطن الأخير المشرع على الموت أو الرجوع دونه على القهر والذل.. لكنه باب الحرية إلى الإنعتاق أو الموت، وكلاهما معنى واحد للباب الأخير .. للحرية.
ازدرد آخر قدمة من الساندويش، وآخر رشفة من كوب الشاي، فجأة نهض _ سار كل شيء بسرعة _ شهر مسدسه، سدد، وشرع بإطلاق الرصاص على كل من يقع عليه بصره. بدأ برواد المقهى نفسه، أصاب رجلاً في صدره تماماً، وقع الرجل على الأرض، عاجل رجلاً آخر يحاول أن يهرب بطلقة في ظهره فوقع، كان جندياً يجلس مع امرء نهض مشهراً مسدسه، رماه بطلقة أصابت رقبته فوقع، ورمى على المرأة. كان مارة شهدوا ما حدث فشرعوا بالتراكض مع الهاربين من المقهى ذات اليمين وذات اليسار، فسدد بما بقي لديه من طلقات باتجاههم، بعضهم وقع ونجا البعض الآخر. حضر جيش الإحتلال.. سيارتا جيب ترجل منها عدة عناصر، أخذوا وضعية الجهوزية بشكك دائري حول المقهى.. حضرت بعد ذلك حافلتان كبيرتان قفز منها عشرات الجنود وربضوا على المفارق..
كان رعد قد انسل وفر، هرب مع الهاربين وسط الهرج والمرج بعدما أخفى مسدسه، وراح يركض ويركض. اختبأ في حديقة بيت أحد المستوطنين.
ألف من الجنود نشروا حواجز في كل مدينة تل أبيب. على المفارق وتقاطعات الطرق. أقفلت المدينة أبواب حوانيتها ومقاهيها، وكل المستوطنين غدوا جيش دفاع. وضحت الحقيقة.. لا مدنيين، بل الكل شارك بالجرم. ووحده رعد البريء وصاحب القضية..
اختفى رعد في المجهول، لم يشاهده أحد، بقي بمحاذاة الأشجار حتى انتهاء الهزيع الثالث من الليل. نسمات الهواء الرطبة أعلنت دنو الفجر، بعد قليل تأتى إلى سمعه صوت أذان الفجر من مسجد ما، نهض وراح يتلمس طريقه مهرولاً وسط الظلام الكئيب متتبعاً صوت الأذان الذي أخذ يقوى. وصل إلى المسجد، كأن السكينة عادت إليه.. دخل.. توضأ.. ركع للصلاة، وراح يصلي.. عند انتهائه من الصلاة رفع عينيه إلى السماء تماماً كما عند خروجه من حدود المخيم، التقط نفساً عميقاً لإحساسه بنسمة رضا اجتاحت قلبه فجأة. أخرج المسدس ونزع منه المشط الفارغ ووضع مكانه مشطاً مملوءاً بالرصاص.. على باب المسجد انتعل حذاءه، سوّى هندامه وخرج.
فجأة، ما إن ولج إلى الشارع حتى رآه أحد الجنود الشارد عن الدورية. سدد الجندي البندقية صوبه وصرخ به وأطلق رشقة لينتبه باقي عناصر الدورية. ركض رعد باتجاه الشارع المعاكس فلحق به عناصر الدورية، أطلق باتجاههم طلقتين وركض، راح عناصر الدورية يطلقون النار بكثافة. أدرك رعد وهو يركض أن النهاية اقتربت، أخذ ينظر إلى البيوت المتهادية الصامتة وإلى الأشجار الواقفة بالظلام، وراح يعد البيوت ويأمل أن أصحابها ليسوا اسرائيليين، بل أصحابها أصحاب الأرض الفلسطينيون، وها إن الأطفال يغفون هانئين، وإن العجائز يشخرون بنوم لذيذ ثقيل ثقل السنين، نظر إلى السماء.. شاهد كيف الليل ينسحب أمام الصباح.. مشى.. أخذ يسير مهرولاً، رأى سيارة مركونة إلى جانب الطريق، اختبأ خلفها ليفاجئ عناصر الدورية. قال بينه وبين نفسه: إنه الباب الأخير صوب الحرية. اقتربت الدورية، انتصب واقفاً، بعزم شرع يطلق، عاجلوه برشقات متتالية من رشاشاتهم.. أصيب بيديه وبطنه وقدميه.. ركع.. لم يركع .. إرتد إلى الوراء ووقع على ظهره.. نظر إلى نجمة تومض ومضاتها الأخيرة.. ولج الدم في الأرض، وولج رعد حازم... السايبر... باب الحرية..