تقودك قدماك، وانت تجول رام الله التحتا (القديمة) الى «حارة القديرة»، التي تعتبر من اقدم حارات رام الله، أسوة بشقيقاتها، حارات جريس، الشقرة، ودار ابراهيم، وتزيد مساحة واتساعاً عن شقيقاتها.تشكل حارة القديرة مثلثاً، ضلعاه الطويلان من الغرب والشمال شارع عين مصباح، وضلعه الثالث الأقصر، شارع الكلية الأهلية.
لكنها خلافاً للحارات الأخرى، اتخذت اسماً لا يدل على اسم «حامولة» ساكنيها من أبناء رام الله الأوائل، أو هذا، على الأقل ما يبدو من ظاهر اسمها.
يخالف بعض سكان الحي هذه «النظرية»، فيقولون إنّها كانت تدعى عند تأسيسها «حارة دار يوسف»، بدليل ان الشارع الرئيسي فيها اسمه «شارع دار يوسف»، المثبت اسمه بشاخصة معدنية على جدار بيت رمزي جابر، ذلك أن الغالبية العظمى من ساكنيها آنذاك، كانوا ينتمون الى هذه العائلة، التي تعتبر أحد عائلات رام الله الأساسية.
أما لماذا أصبح اسمها حارة القديرة، فيعتقد بشارة اللدعة، وهو الذي عاش فيها عشرين عاماً (1962-1981)، أن التسمية مرتبطة بطقس يخص الأموات، حيث كان يتم الطبخ في قدور (مفردها قدرة)، من قبل إحدى العائلات، لإطعام عائلة المتوفى، بعد الدفن مباشرة في المقبرة، وكانت القدور المصنوعة من الفخار، آنية الطبخ آنذاك، وتصغيرها اللغوي «القديرة»، ومن هنا جاءت تسمية الحارة بهذا الإسم، وهذا الرأي هو تحليل اللدعة الشخصي، وربما يدعم هذا الرأي كون المقبرة الموجودة في القديرة هي أقدم مقبرة في رام الله، حسب بعض الرواة، ولا يظهر فيها سوى قبرين او ثلاثة، أحدها كُتب عليه 1917، ولكن من دون ايضاح فيما اذا كان هذا تاريخ الوفاة، ام الميلاد، قبل ان تنتقل الى حارة الشَقَرَة، قرب مدرسة هواري بومدين الحكومية المختلطة، فالماسيون، ومؤخراً الى المنطقة الصناعية في رام الله، حيث تتجاور في المقبرة نفسها، قبور المسيحيين والمسلمين.
تدخل زواريبها وتمشي في شوارعها فتطالعك البيوت العتيقة التي مضى على بناء بعضها نحو مئة عام واكثر.
في حارة القديرة، هناك أقدم مقبرة في رام الله، بمساحة تناهز الف متر مربع (دونم)، درست معظم قبورها بينما بقي بعضها يتحدى الزمن، لكنها تشكو الاهمال المزمن، فالشارع المؤدي لها غير معبد بالكامل، والجزء المعبد منه يعود لعشرات السنين.
بيت عائلة جابر من أقدم العئلات التي سكنت هذه الحارة، لا يزال شاهداً على عبق الماضي، وعائلة جابر هذه، تملك محطات وقود، هي الاقدم على الاطلاق في رام الله والبيرة، البيت تم بناؤه في عام 1941، وما زال يحتفظ برونقه وطرازه الهندسي الجميل، وحديقته التي تغص بالأشجار والورود.
في بيت ابو عزيز (غسان عزيز يعقوب حلاوة)، تشم رائحة التاريخ لهذا البيت الذي تم تشييده في عام 1922، ليدخل ضمن قائمة المباني «المحمية»، التي يمنع هدمها أو إجراء أي تغيير فيها لتبقى شاهداً على فن معماري فلسطيني.
جدران البيت السميكة، والأقواس المطلية بالأبيض، وغرفه المصطفة على الجانبين في دهليز طويل داخل البيت، تهمس لك بعزٍّ غابر، وتنبئك بأسماء من سكنوا هذا البييت العتيق.
أبو عزيز وزوجته أم عزيز، المسنيْن المضيافيْن، وفدا الى المدينة من قرية عين عريك المجاورة (غرب رام الله)، وسكنا هذا البيت منذ عام 1970 ، يعرفان الحارة بأسماء ساكنيها، ومن تعاقب عليها في الخمسين سنة الأخيرة.
ام عزيز تعتذر بتهذيب وأدبٍ جمّ، أنها لا تعرف الكثير عن الحارة وساكنيها، لكنها تحدثك عن بيوتها وساكنيها، لتكتشف أنك عثرت على كنزٍ من المعلومات المحفوظة في ذاكرتها.
حارة القديرة، شأنها شأن الغالبية العظمى من أحياء رام الله، تسكنها عائلات مسيحة ومسلمة، وتسود بينها علاقات ودٍّ واحترام، لكنها تتميز بحالة فريدة، هو وجود عائلتين في البيت نفسه، مسيحية وأخرى مسلمة، هما عائلتا عز والصبار، ويبدو ان هذا البيت توارث هذا التراث من عائلتين سابقتين، مسيحة ومسلمة، هما اللدعة والخوالدة.
تعود الذاكرة بلبيب اللدعة (تعود أصول العائلة ابى مدينة يافا) الى سنوات طويلة خلت، ليروي لنا كيف عاشت عائلته في بيت واحد مع عائلة الخوالدة (تعود أصول العائلة الى قرية بيت دجن)، حيث تقاسمت العائلتان غرف البيت الأربعة المصطفة على جانبي دهليز طويل، وتشاركت في استخدام المرحاض الوحيد في البيت، اما المطبخ، فاقتطعت كل عائلة جزءاً من إحدى غرفها لتكون مطبخاً، فلم يكن للمطابخ الحديثة في البيوت وجودٌ آنذاك، فلم تكن هناك شبكة مياه داخلية في البيوت، عند بنائها، في أوائل القرن الماضي، او اواخر القرن الذي سبقه، وكانت تعتمد على مياه الآبار التي يتم حفرها لتجميع مياه الأمطار في سد احتياجاتها المختلفة من المياه، وكان الاستحمام يتم في «اللجن»، وتسخين المياه بواسطة «بابور الكاز».
عاشت العائلتان في وفاق ووئام ومحبة لأكثر من عشرين عاماً، قبل ان تنتقل عائلة اللدعة الى بيت حديث في عين منجد (1981)، وهي تمثل نموذجاً مصغراً عن التعايش بين المسيحيين والمسلمين في رام الله، ذلك التراث الذي ما زالت تتميز به مدينة رام الله.
كان امراً مألوفاً والحالة هذه، ان تتشارك العائلتان «الطبخة» الواحدة في بعض الأحيان، وأن تتشاركا الاحتفال واحياء الذكرى، في مواسم الأعياد لدى المسيحيين والمسلمين على السواء.
هذه الحارة، كما في حارات عتيقة أخرى، غزتها الحداثة أيضاً، فأقيمت عمارات حديثة بطوابق متعددة، مكان بيوت جرى ازالتها في وقت سابق، أو تهدمت بفعل عوامل الزمن، أو هجرها أصحابها، أو في مساحات كانت خالية من البناء، فبدت نشازا في سمفونية متناغمة من بيوت عتيقة.
لكن بيت آل طوطح بطرازه المعماري القديم، وقرميده الذي يتحدى الزمن، الذي تم بناؤه أوائل القرن الماضي، ويقع في طرف حارة القديرة الشمالي، فيسكنه الآن حنا قفه، الذي أخبرنا أن والده قسطندي قفة سكنه والعائلة منذ العام 1940، وقد اختار السكن فيه لقربه من مكان عمله، وكان البيت حين إنشائه ملكاً لرئيس بلدية رام الله آنذاك، ابراهيم سالم.
وأشار حنا في لقائنا معه الى أن المنطقة الواقعة بجوار منزله، كانت أرضاً خالية تدعى «البيّوضة»، التي أنشئت عليها عمارات حديثة.
نهيل دوغان، ابنة رام الله، المولودة في عام 1967 التي هاجرت مع والديها وبقية افراد الأسرة إلى الولايات المتحدة منذ عام 1987، تروي كيف كانت تلعب في طفولتها وشبابها المبكر في بساتين وساحات وشوارع الحارة، حينما لم تكن هناك الكثير من السيارات تعبر الحارة، ودخلت معظم بيوتها، وتعرف جميع ساكنيها حتى اليوم الأخير قبل أن تغترب.
لم تعد هناك مساحات خالية تقريباً، في حارة القديرة، وحتى بعض بساتينها تعيش حالة من الإهمال وعدم استغلالها في زراعة أي شيء، كما لا يوجد فيها أو بالقرب منها حدائق للأطفال.
بيت الكعيبني، على يسار الداخل الى المقبرة الموجودة في الحي، ما زال قائماً وشاهداً على عراقة التاريخ، وجرت اقامته قبل عام 1900، من قِبَلْ فرح الكعيبني، كما يروي سامر الكعيبني، الذي يملك ويدير مكتباً للخدمات العامة في مبنى الغرفة التجارية، مقابل مبنى بريد رام الله، وجرت تحديثات على المنزل الذي يحمل اسم العائلة، في ثلاثينيات القرن الماضي، لكنه لم يعد مكاناً ملائماً تماماً للعيش فيه، بعدما طرأت تغيرات دراماتيكية على نمط العيش، منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، فانتقلت العائلة الى بيت حديث في حي الطيرة، لكنها بقيت محتفظة بالبيت، الذي يصفه سامر، بأنه شبه مأهول، أي انهم يترددون على البيت بين وقتٍ وآخر.
حارة القديرة، تضم عدداً من المؤسسات العامة والتعليمية، منها الكلية الأهلية (مدرسة دير اللاتين) المختلطة، ومدرسة راهبات مار يوسف، التي لا تقبل إلا الإناث، ونادي اسلامي رام الله، الذي شغلته قبل ذلك مدرسة رام الله الإعدادية، وتملكه عائلة مهويّة، كما يوجد بها المتحف، الذي آلت ملكيته لبلدية رام الله، وكان قبل ذلك منزلاً تملكه عائلة الصاع، التي هاجر كل افرادها الى الولايات المتحدة، في سبعينات القرن الماضي، وبعضهم قبل ذلك.
لا تستطيع أن تتجاهل وجود أقدم فرن لكعك السمسم في رام الله «فرن عطية» الذي يحتل بناية قديمة في حارة القديرة، مجاورة للمتخف، كانت أيضاً ملكاً لآل الصاع، الذي يزدحم المشترون على بابه كل صباح، خصوصاً في أيام عطلة نهاية الأسبوع، فاضطر مالكه الى تنظيم «الدور» من خلال أرقام توزع على الوافدين صباحاً، ذلك أن سمعته كمنتج لأشهى كعك بسمسم في مدينتي رام الله والبيرة، ليست موضوعا للنقاش.
أما الفرن الآخر «فرن البيت القديم»، فيقع في غرب الحارة، على شارع عين مصباح، وما زال يستخدم الحطب، لانتاج الخبز الفلسطيني التقليدي، واعداد طبخات فلسطينية تقليدية مثل «القِدَرْ»، والمسخّن، وغيرهما.
يشكو اهالي الحارة من عدم الاهتمام الكافي بحارتهم، مقارنة بحارتي الشَقَرَة، ودار جريس وشارعي البلدية والسهل، ويأملون أن تلفت «الجهات المختصة» لحارتهم لإعادة تأهيل بعض شوارعها وساحاتها.