ظنوك ساذجاً

  • 0
  • ض
  • ض

ظنوك ساذجاً يا أبي وكنت تضحك من ظنهم ولا تحاول أن تنفي ذلك الظن. بين طيبتين مضى عمرك القلق أيها المجبول بالرحمة والمفتون بالمغفرة والمجنون بالآخر، طيبة فطرية وأخرى إرادية تلزم نفسك بهما وتهزم غضبك في جميع الأحوال والأطوار. الطيبة عندك قرار، لأن الدنيا في عيونك لا تستحق كل هذا العناء. والإنسان في خافقيك ابن المكابدة وقهر الظروف، مسكين يحتاج إلى من يمد له يداً لا سوطاً. آه من لغة عينيك الواسعتين أرقع بهما محاجري المثقوبة. آه من صمتك الآسر المعتق بأصداف الحكمة حين يستعر طنين الثرثرة من حولك. تعزف عن الكلام وتعزف لحنك الداخلي الخاص والعميق ساخراً من توافه الأمور، مشفقاً على الناس، إذ يعظمون صغائر الأحداث. آه يا أبي كم حيرني وقوفك على التل تلقي إلى الحياة نظرة مشفقة من مكنون عرفانك. ما ألذها حيرة كانت تسعدني وتزهو بقلبي الممتلئ بك. هكذا، في منزلة بين منزلتين رأيتك على الدوام في اليقظة وفي الأحلام، فلا أنت كالبشر تماماً ولا أنت كالملائكة بالضبط. بل إنسان بجناحين يطير على مسافة منخفضة فوق رؤوس الناس، يراقب أحوالهم ويقضي حاجاتهم ويتلو على مسامعهم كل آيات الفرح. آه من جودك الذي ليس كمثله جود. أضحك حين أستذكر كيف كنت تحصي مشاهير الكرم في التاريخ مُصراً على تجاوزهم، فلا حاتم الطائي ولا سواه نجا من تحدياتك ولا طاول عطاءاتك التي فاقت كل تصور. ثم سرعان ما استذكر ليلة الوفاة حين كنت تردد بصوتك الخفيض «الحمدلله إنني أعطيت ما استبقيت شيّا». نعم، أشهد انك فعلت. نظارة وعصا كل ما تبقى منك. لا مال ولا ملابس ولا حتى قلم رصاص. هكذا يموت الأنبياء يا أبي.

0 تعليق

التعليقات