عندما تستمع إلى معظم أعمال الفنان والملحن والمؤلف والموزع الموسيقي اللبناني راجي مصطفى، تطرح على نفسك السؤال ذاته الذي يطالعك أيضاً أمام عمله الموسيقي الجديد الصادر تحت عنوان «أحلام منسية»: لماذا تبدو ألحانه مألوفة لناحية طبيعة روحها اللحنية التي تشعرك دوماً بأنك تعرفها منذ زمن بعيد وترتاح لألفتها وجمالها الداخلي؟ أول ملامح هذا السر يبدأ في عنوان مقطوعته الذي يشي ببعض ملامح الجواب. معظم كتابات راجي الموسيقية مفعمة بروح الأصالة الشرقية، وبمقامات الموسيقى العربية الأساسية، حيث تبدأ هنا مُؤسلبة على مقام الفرحفزا من عائلة النهوند على درجة دو (سلم مينور هارموني). وللتوضيح، فإنّ مقام الفرحفزا هذا يتكون من جنسين هما جنس النهوند وجنس الحجاز. وقد اختار راجي مصطفى أن تبدأ جملة الثيمة الرئيسية على مقام الفرحفزا من الجنس الثاني للفرحفزا (أي ابتدأ بجنس الحجاز) وانتقل مستقرّاً بها على الجنس الأول للفرحفزا (جنس النهوند)، مع التركيز في هذه الجملة الموسيقية على صولو العود والبيانو. في الجملة التالية، تم اختيار الأداء الكورالي على هيئة آهات تتوسّل الفخامة كتعبير عن الرقي والنصر، وترافقها جمل موسيقية تحمل صيغة الجواب، حيث تتعهد بأدائها آلات الأوركسترا الوترية رداً على صيغة الجمل التي حملت قبلها صيغة السؤال. ثم في الجملة التالية، يؤدي العود جملةً جديدةً تتوسل الفخامة، ويرافقه في الخلفية الهارمونية الكورال وآلات النفخ النحاسية والوترية. تنتقل الأجواء إلى حالة شرق عربية أركانها الأساسية آلة القانون والناي، ترافقهما على الإيقاع آلة الرق. وتم أداء هذا الجزء من الثيمة على مقام الهزام وعلى درجة «مي نصف بيمول». في الجزء الثاني من الجملة ذات الأجواء الشرق عربية، يتم العزف على جميع أنواع الآلات لتصل فيها هذه الثيمة إلى الذروة بشكل متجانس ما بين الأسلوب الشرق عربي والأسلوب الغربي الحديث.
تتفاعل هذه الأفكار الموسيقية أعلاه بمقاماتها لتروي قصة هذه «الأحلام المنسية» كعنوان ينسج رواية هذه المقطوعة الممتلئة بهوية موسيقية ذات طابع تصويري عرف راجي مصطفى كعادته كيف يضخ فيها نقلاته المقامية الرائعة كتعبير عن فهمه لمراحل الصراع الدرامي في مقطوعته الجديدة والجميلة التي تعبّر بصدق عن روح الانتماء المحلية التي تخرج مزدانة بعالمية شكلها الخارجي كنسيج توزيع أوركسترالي من دون أن تنسى روحها الشرقية التي يزدهر بها هذا النسيج البوليفوني، وهو يحتفل بعناوين مقاماتها المشروحة أعلاه.
كتابات مفعمة بروح الأصالة الشرقية، وبمقامات الموسيقى العربية


تتفاعل عناصر هذا النسيج، راويةً باختصار أحلام راجي مصطفى من البداية إلى النهاية بتآلف وتوازن موسيقي جميل. يستعمل راجي مصطفى مقامَي الموسيقى الكلاسيكية العالمية (ماجور مينور) ويتفنن في استعمال تقنيات توزيع وأركسة غربية بعلاقات تفاعلية هارمونية تناسب استعماله لمقامات الموسيقى العربية، فيمكن وصف مؤلفاته بالمنفتحة على ذكاء التفاعل والتواصل بدون تعصب.
المعزوفة الجديدة تحمل مفتاح أصالتها ليس فقط في جذورها المقامية الشرقية فقط، بل في تفاعل مقاماتها بروح عالمية تتوسل النقل المقامي بتلقائية شفافة لا ادّعاء فيها أبداً، بل يمكن القول إنّها ذات طابع محلي قديم يذكرك دوماً بأحياء صور القديمة وهي تتقاطع بضواحيها الجديدة المطلّة على البحر المنفتح على العالم بروحية المناخ المتوسطي الشرق عربي. إنّها أحلام وان كانت منسيةً في العنوان كما يقول راجي مصطفى، لكنها في لاوعي الموسيقي، تنهض للقاء الحاضر الموسيقي، وهو يواجه العالم بجمال ملامح مدينته تاريخياً وجغرافياً. قد يكون أيضاً في كيفية رؤيتنا لمدينة صور وهي تتفاعل تاريخياً بمقامات يعرف راجي مصطفى كيف يخوضها ليُطَوّع ألحانه بحب وفرح كبيرين ويعيد صياغة توزيعاته برفدها بشرعية التعبير الأصيل عن سحر الشرق وروحه التي ستبقى تحلم بالخروج إلى العالم من داخل جذور مقاماتها.
من هنا، تشعر أن طابعها العام يمزج بشكل لائق ومتجانس، ما بين الطابع الشرق عربي والطابع السينمائي، وما يعرف تحديداً بالطابع الملحمي لما فيه من خليط ما بين الكلاسيكية والحداثة. نلاحظ أن مدة هذه المقطوعة يمتد على ثلاث دقائق ونصف الدقيقة، لتناسب سرعة عصر الحداثة ووتيرة فهم الجيل الحالي لتصل الفكرة بشكل سريع ومختصر بلا تطويل يجلب الملل. يخرج راجي مصطفى بروح التأليف ليضع المتلقّي أمام سحر التعبير الذي يدغدغ روحه وتوقه إلى إعادة التذكير بما يكاد يختفي في الهبوط الموسيقي الذي يلف البلاد والعباد. يرسم خريطة حلمه بلغته المبتكرة وبكتابة موسيقية يداوم بإصرار على توسّلها بكل ما في روحه الجميلة من طاقة وشغف و«أحلام منسية».