صُدم الوسط الثقافي المصري، صباح الأحد، بإعلان وفاة الكاتب والروائي حمدي أبو جليل قبل إتمام عامه السادس والخمسين (1967-2023). قبل ساعات من وفاته، كان يكتب على فايسبوك، معزياً بوفاة السياسي المصري جورج إسحق. وفي الليلة ذاتها، كان يُكرَّم في النقابة الفرعية لـ «اتحاد كتّاب بني سويف والفيوم»، المدينة التي وُلد وعاش فيها (جنوب غرب مصر)، فكيف يموت في الصباح؟ السؤال طرحه قرّاء وأصدقاء حمدي، معتقدين أنّها مجرد دعابة «رخمة»، إلى أن أعلنت ابنته الكبرى هالة عن الخبر الأكيد، فتبادل الأصدقاء التعازي، وتحولت صفحاتهم الفايسبوكية إلى سرادقات عزاء.
كانت حياته مغامرة كبيرة مليئة بالأخطار، لكنه كان يتعامل معها بطبيعة الشخص البدوي

هذه الوفاة ذاتها تشبه حمدي، كأنها نهاية بطل رواية يكتبها، أو خدعة من خدعه الأدبية التي تميّز بها في أعماله، لكن أي خدعة في الموت؟ فصاحب «لصوص متقاعدون» (2002) امتلك روح محبّة للفكاهة والسخرية، سواء في الكتابة أو الحياة. ظهر ذلك في طريقة سرده لأبطاله وعوالمهم، بجرأة أدبية مكّنته من اقتحام عوالم بكر، متعمّقاً في فهم الشخصيات.
انتقل حمدي للإقامة في القاهرة أوائل الثمانينيات بحثاً عن مكان له وسط أدباء القاهرة، لكنه جاء إليها محمّلاً بحياة بدوية ذات طبيعة خاصة، بكل ما فيها من فلسفة وصفاء ومغامرة وسخرية، لكنها أيضاً بيئة لا علاقة لها بالكتابة. كان يردّد دوماً «أنّه كان يعيش في الجبل مع أهله في بيئة ليس لها عهد بالكتابة». مع ذلك، تمكّن من التقاط هذا الخيط الرفيع ويحكي سيرة المدينة من خلال أبطالها المهمشين. نجح في امتلاك مفاتيح عالم روائي شديد الخصوصية. كان ذلك واضحاً منذ البداية. ففي عمله الروائي الأول «لصوص متقاعدون»، كتب عن مهمشين يعيشون على أطراف المدينة تجمعهم منطقة واحدة. ورغم التحفظات التي وضعها المجتمع على هذه الفئات، يأتي حمدي ليكتب عملاً عنهم يبدو ساخراً، فالضحكة لن تغادر وجهك أثناء القراءة، لكنّ هذه الفكاهة تحمل عمقاً يوضح طبيعة شخصيات يخال بعضهم أنّها غير موجودة على أرض الواقع.
المفارقة أنّ حمدي دخل إلى هذه الرواية بعبارة «الموت أحد البدائل المطروحة أمام الواحد دائماً كوسيلة سهلة للخلاص من خطر ما... الموت غاية كل خطر وهو في الوقت نفسه الوسيلة المثلى للتصالح مع الأخطار»، وحياته كانت مغامرة كبيرة مليئة بالأخطار، لكنه كان يتعامل معها بطبيعة الشخص البدوي.
نجح حمدي في هذا العمل في خلق عالم مدهش رغم ما يحويه من كل أشكال القسوة، واستطاع أن يُظهر هؤلاء المهمّشين بشكل مميز وغير تقليدي على صفحات الرواية كنماذج وشخصيات موجودة بيننا وفي الوقت نفسه لم يدخلهم لعبة «الأحكام والتقييم» وأبعدهم عن التشنج الأخلاقي، كل ذلك في قالب ساخر، حيث نجح في استخدام السخرية ليس كأداة لصوت هؤلاء المهمشين والمقموعين فحسب، وإنما أيضاً كأداة لتجريد العالم. في هذا السياق، قال حمدي أبو جليل في حوار صحافي سابق إنه «لا يتعمد السخرية في أعماله وإنما يستخدمها لفهم المتناقضات». يظهر ذلك بقوة في روايته «الفاعل» (دار ميريت - 2008) التي فازت بـ «جائزة نجيب محفوظ» في العام نفسه. وقالت لجنة تحكيم الجائزة في حيثيات فوزها إن «الرواية (الفاعل) تبني قاهرة مغايرة... قاهرة الفواعلية الذين شيدوها وبدّلوا وجه الأطلس الأدبي المتعارف عليه إلى الأبد». وترجم روبن موجر «الفاعل» إلى الإنكليزية بعنوان «كلب بلا ذيل».
أما روايته «قيام وانهيار الصاد شين» (دار ميريت- 2018)، التي ترجمها هنري ديفيز إلى الإنكليزية بعنوان «الرجال الذين ابتلعوا الشمس»، فهي رواية تحمل مغامرةً كبيرةً، تتعدد فيها اللهجات؛ البدوية والفيومية والصعيدية والقاهرية والليبية والمغربية، إذ تتناول مجتمع البدو المصريين الذين انتقلوا في سبعينيات القرن الماضي إلى ليبيا، وتجربة الهجرة غير الشرعية من السواحل الليبية إلى السواحل الإيطالية.
واحتلت اللغة مكانة مميزة في كتابات أبو جليل، فهي لغة أقرب إلى الحكي الشعبي، لغة بسيطة لكنها مميزة وموجزة استطاع أن يستخدمها ببراعة في وصف الحياة اليومية. وظهرت هذه اللغة المتجددة أيضاً في روايته «يدي الحجرية» الصادرة عن «هيئة الكتاب» عام 2021. عند سؤاله عن لغته، تنقل الكاتبة ميسون صقر عن حمدي قوله: «أنا أبحث دوماً عن لغة تشبه الكلام، وهذا تحديداً ما يطيل وقت كتابة أعمالي. كتبتُ رواية «الصاد شين» في عشر سنوات، تجربة حاضرة كاملة وأكاد ألمس الشخصيات، وما حدث أحفظه بالموقف واللفتة من أول الرواية إلى آخرها. ماذا كنت أعمل في السنوات العشر؟ أبحث عن النبرة؛ عن اللغة الأشبه بلغة الكلام. ليست العامية وإن كنت أحب الكتابة بالعامية. لكنّني أقصد سهولة الكلام وخفته ودقته وقدرته على الإقناع.
استخدم لغة أقرب إلى الحكي الشعبي في وصف الحياة اليومية

وربما يرجع ذلك إلى أنني ابن الثقافة البدوية وهي ثقافة الشفاهة، ثقافة الكلام».
استقبل النقاد والوسط الثقافي المصري لغة حمدي وطريقته في الكتابة بالاحتفاء دائماً، منذ صدور مجموعته القصصية الأولى «أسراب النمل» في عام 1997. في عام 2000، أصدر مجموعته الثانية «أشياء مطوية بعناية فائقة». وفي عام 2002، أصدر روايته الأولى «لصوص متقاعدون» التي حظيت باحتفاء كبير وترجمت إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، إلا أن التقدير الأكبر من وجهة نظر حمدي هو فوز روايته «الفاعل» (2008)، بـ «جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة. أعاد عدد من أصدقاء حمدي أبو جليل مقتطفاً من كلمته أثناء تسلمه الجائزة حيث قال: «شكراً للجائزة واللجنة والجامعة، يا لها من مفاجأة! ويا له من فرح! شكراً لتفهم الانحراف عن الأستاذ في جائزة الأستاذ، لا، ليس الانحراف وإنما العجز... شكراً لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية، ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود، في جانب منه، إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعاً النماذج العظيمة السابقة. دائماً أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائي به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها، أو تجاوزها، يدفعه إلى مسارات جديدة تماماً، بل أحياناً مناقضة لمجراه القديم. العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، ولكن العجز، ربما لقسوته، يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع إلى إنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز في الوقت نفسه. خطوة تجمع بين الفرح بجِدتها ومغايرتها، والحسرة من وضوح عجزها».
لحمدي كتابات أخرى بعيدة عن الرواية القصة، مثل «القاهرة شوارع وحكايات» (الهيئة العامة للكتاب ـــ 2008)، و«الأيام العظيمة البلهاء ـ طرف من خبر الدناصوري» (دار ميريت ـــــ 2017).
وربما ما كتبه الروائي المصري الكبير الراحل خيري شلبي عن كتابات أبو جليل خير تلخيص له، إذ اعتبر أنّ عالم حمدي ثري بكل ما فيه من غرائبية وسلوكيات وحشية حادة يتفوق على غرائبيّات الإيطالي إيتالو كالفينو، والتشكيي ميلان كونديرا، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.