الشاعر أُنسي الحاج (1937 ــ 2014) سابقٌ على أُنسي الحاج الناثر، لا أقصد في القيمة بل في عُمْر الاحتراف. من ديوانه «لن» الذي كتبه «شاعر ملعون» بحسب قوله في وصف نفسه كانت البداية الهوجاء التي تشبه العاصفة الرملية في تقديم القليل من المطر، مقابل الكثير من الغبار. وكانت للديوان مقدّمة نثريّة بدَت غرائبيّة في أهدافها ومعانيها وطريقتها في فهْم الشّعر وكتابته والمُختَصَرة بـ«الإيجاز والتوهّج والمجانية». والكلمة الأخيرة «المجانية» أصابت رفاقه في مجلة «شِعر» بالذهول السلبي، إذ في غمرة خوضه معهم بحرَ التجديد في الشعر العربي وحرصهم على انتخاب ما يقولون ويعبّرون عنه بشكل لا «يهين» العقل السائد فينفّره بالمجانية بدل استقطابه بجدية الطرح، لأنهم يريدون للثورة الشعرية أن تصل إلى الجمهور العربي ثقافيةً إبداعية لا تدميريةً... جاء أنسي بكلمة المجانية لينسف أي قواعد يمكن أو توضع لكبح فوضى أو خرابٍ عام في الشعر. كان يقول ليس لنا إلا التدمير.

تدمير كل شيء تستطيع أيدينا الوصول إليه في هذا الذي اسمه الشعر العربي الممتدّ من الجاهلية حتى يومها (نتحدّث عن أواخر الخمسينيات من القرن الماضي). صحيح أن أنسي، في سنواته الأخيرة تلا فعلَ الندامة عن بعض آرائه الحادّة، ومنها هذا الرأي وقال «إن خطأنا الأكبر في مجلّة «شِعر» وبداياتنا نحن شعراءها، أننا لم نستطع خلق ضوابط معينة على كتابتها فانفتحت على المجهول، ولو استطيع أن أوقف كل كُتّابُ قصيدة النثر لفَعلتُ»، أي: ليست نهائيةً كل الأفكار التي قد نبدأ فيها حياتنا، وأحياناً نضطر إلى محوها فلا نستطيع. لكن الزمن يكون قَد مَرّ، والمراجعة تصح مع الذات لكنها لا تصحّ مع الزمن الذي تلقّى مفاعيل تلك الآراء وحفَرها في تجربة صاحبها وتجارب الآخرين.
ومع أن أنسي كان يمتعض من التركيز على مقدّمة ديوانه «لن» لدى الشُّعراء زملائه أو الذين جاؤوا بعدهم بسنوات ولدى النقاد والباحثين في «الحداثة الشعرية»، معتبراً أن قصائد المجموعة هي التجسيد الإبداعي الحيّ لأفكار المقدمة وليست مفصولة عنها، فإن كثيراً من المشتغلين بالأدب ظلّوا يرون قصائد «لن» تجسيداً لفوضى أيِّ بدايات وفوَرانها واختلاط الأمور فيها أكثر مما هي برهانُ شاعرية أنسي، في حين كان آخرون يَعتبرون «لن» أيقونةَ التحديث في الشعر العربي كله. وفي الديوان الثاني بعد «لن» وهو «الرأس المقطوع»، أكمل أنسي في «التدمير» ذاته وفي «المجانية» ذاتها، وحَرص على تثبيتهما. والحقيقة أنه لم تُفهَم المجانية يوماً في أيّ لون من ألوان الأدب إلّا من منطلق قَول الأشياء بلا هدف، والكلماتِ بلا أي ترابط أو معنى محدد، والجُمَل من دون أي قصْدٍ واضح أو كامن.
وإن نظرةً متأنية على مقدمة «لن» ومقارنتها بالكثير من الكتب والمناظرات والأحاديث التي جرت مع شُعراء مجلة «شِعر»، وتجري إلى اليوم مع مَن بقوا أحياء منهم، أو مع الشعراء الذين أتوا بعدَهم، تقود إلى الاعتراف المؤكد والقاطع بأن تلك «المقدمة» كانت البلاغ رقم واحد، فعلاً لا قولاً، في تجربة الحداثة الشعرية، وأن ما نسمعه من شُعراء ومُنَظّرين لا يزال يَستخدم لُغة أنسي وتعبيراته ومفرداته ومناخَه وأفكاره وأسلوب مقدّمته الصدامي المؤثر، لكن نادراً ما يقول أحد إنّ هذا التعبير أو تلك الفكرة هي من شُغل أنسي الحاج. وهو لم يكن أنانيّاً ليخرج صارخاً «سرقتموني وأنا حيّ».
أقول كلامي لأصل إلى أنّ شاعرية أنسي الحاج تركّزَت واختمرت في ديوان «ماذا صنعتَ بالذهب/ ماذا فعلْتَ بالوردة» الذي تبلورَت فيه لُغة أنسي الشّعرية وتمكنَت من نفسها، واكتملت نصّاً أو نصوصاً شعرية نثرية متينة ومؤثرة، وروحاً إذ بانت الخطوط العريضة الجديّة في تجربته حيث طبّق أنسي مقولته في «الإيجاز» المُوحي، و«التوهُّج» النفسي واللغوي أسلوباً ومعاني، واختفَت إلى غير رجعة «المجانية». فكان «ماذا صنعتَ…» أول نزول أنسي إلى الأرض بعد التوَهان في فضاء ضاع بين التنظير المتضارب والنصوص الشعرية التي كانت لا تريد أن «تُحَدِّثَ» (من حداثة!) بقدر محاولة قلبِ مفاهيم الشّعر في ما هو قائم، وزعزعة القناعات به، وسَوقه إلى «عدالة» التجارب العصرية التي كانت سارية في أميركا وفرنسا، باعتبارها الطريق الوحيدة إلى الشّعر العربي الجديد. في هذه المرحلة الدقيقة عن عمر مجلّة «شِعر» وأنسي كان أحد رموزها مع يوسف الخال وأدونيس (قبل أن يسافر إلى باريس) وعصام محفوظ وشوقي أبي شقرا وخالدة السعيد ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة ونذير العظمة، وكانت اجتماعاتهم في «خميس مجلة «شِعر»» دورية وصاخبة وحوارية بنفَس نقدي مُواجِه لا موارب، أرسلت خالدة السعيد إلى زوجها أدونيس في باريس رسالة تقول له فيها إنك ستكتشف قريباً موهبة شِعرية كبيرة في لبنان هي أنسي الحاج. وكرر هذا القول أدونيس في رسالة وجهها إلى يوسف الخال بعد ذلك، وكانت أوساط الشعراء والأدباء تتناول اسمه بكثير من الإعجاب والتعويل عليه في مستقبل قصيدة النثر.
حتى كان «الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع» حين فاضت روح أنسي الحاج الحقيقية على صفحات الديوان من أوله إلى آخره. إنه نشيدُ عاشقٍ دخَل في صومعة ذاته، وأحرقها شموعاً وتبصّراً صوفياً ليس مع الله بل مع الحبيبة والله. كأنما أنسي في هذا الديوان التقى مع الربّ في انتظار الحبيبة ومناشدتها والصلاة لها لكي تحضر من غيبٍ أو من القصيدة ذاتها كما كان يريد. غاب أنسي عن الوعي في «الرسولة» ليَدخُل وعياً آخر أكبر وأوسع وأجمل ولكن ببساطة المؤمنين بأن الحب هو المطهَر الثابت الذي يُعلّم الناس ويصنفهم ويصنعُهم أحياناً، وبطُهْرانية راهب لم يعد لديه ما يقوله ففتح يديه إلى السماء وتولّت عنه روحه الكلمات والدعوات والصرخات المبحوحة والمنكسرة، وفُقِدَ أي اتصال بينه وبين الديوانين الأوّلين، فيما كان الديوان الثالث بمثابة الباب إلى ديوان «الرسولة» الذي وضع فيه أنسي عامداً متعمّداً وبلا وجل أو تردّد ذاته الإيمانية، مستخرجاً من ذاته أيضاً التأثيرات بلغة الكتاب المقدّس لصنع لُغة صافية مُحَمّمَة بعطر خفيّ تَستدرجُ الفكرة من مخابئها في العقل والقلب وترسلها دافئة تجذبك إليها عبر حبيبةٍ رسولية وكلام يستقي أغلبه من «نبوّةٍ» ما موجودة في كل مؤمن، تعلن أن الحبّ هو الحياة والموت والمسافة بينهما!

في مطلَع السبعينيات، قام جدل في الصحافة بين لبنان ومصر حول أولويّة أيٍّ من البلدين في تصدُّر النهضة، وجرت مقارنة بين فيروز وأم كلثوم

نتحدّث عن مرحلة كان فيها أنسي الحاج قد تسلّم رئاسة تحرير ملحق «النهار الثقافي» الأسبوعي، وهنا كان الانتشار الكبير لاسمه والتأثير الجدّي الذي زرعه في الشّعر النثري وفي كتابة المقالات الثقافية. كان الملحق على صورة لبنان في ذلك الزمن ( 1974/1966) مساحة من الأمن الاجتماعي والأمان السياسي والنشاط الثقافي والفني لا للبنان فحسب بل للعالم العربي. وحتى الغرب كان ينظر إلينا كبلد مرشّح للعب دور نهضوي في الفنون. فتَح أنسي الحاج الملحق الثقافي لكل السجالات حول أنواع عدة من الكتب الفكرية والسياسية والدينية والثقافية، واحتضن عدداً من الشّعراء الجدد (يومها) الذين ذهبوا إلى قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر. وينبغي أن يُسَجّل له أنه في عز دفاعه عن قصيدة النثر وانخراطه فيها إلى أعمق ما يكون، بقيَ الملحق منفتحاً على القصيدة الكلاسيكية وبقي أنسي يختار أجمل ما يمكن من هذا الشعر، من شُعراء ذلك الزمن، وينشره معتمداً قاعدة ثابتة جمالياً هي أن الشّعر المتميز لا يُحصر في نوع معين لا شكلي ولا مضموني. وهذه القاعدة التي تختلف مع نظرته هو إلى «التجديد بالتدمير» جعلَته يكبر في عيون المشتغلين في الأدب تلك الأيام ودفعهم إلى اعتماد «الملحق» منبراً لهم في ما ينشرون سَواء كمقالات أو كنصوص شِعرية. وكان أنسي أسبوعياً يختار موضوعاً ثقافياً يكتب فيه، وكانت لُغتُه في المقالات نارية الطابع، بَرْقِية الأسلوب، تتبنى الجُملة القصيرة الخاطفة التي يختار كلماتها كأنها ابنة لحظة الانفعال ولحظة التفكير في آن. وكان أنسي في هذا الأسلوب يبتعد عن «المدرسة» اللبنانية الصحافية التي درَجَت وفيها تأنُّق وتبحُّر و«تلاعب» أدبي ظاهر باتجاه أسلوب فَوْري وحيوي أكثر ينتمي إلى اللسان اليومي المباشر في التعليق على المواقف والأحداث. وكما صنع أنسي لغته الشّعرية من حرارة الإحساس مطوّراً إياها باتجاه حرارة الروح، هكذا كانت مقالاته النقدية نابضة متوثّبة وفيها إعلانُ موقف لا يَلُف ولا يدور، وغالباً يصدم بجرأته وقوّته في وضع الإصبع على الجرح أو النقطة فوق الحرف، فلا يلتبس معنى ولا تشرد فكرة، ولا يتلطّى القائل خلف «مصادر» بل إلى المواجهة يسير ولو كان السجن بالانتظار، وقد كان فعلاً في الانتظار!
وأنسي الذي لا يخشى ما كتب، ولا مرور الزمن على الكتابة بمواضيع آنية. فقد أصدرَ في أواخر السبعينيات مجموعة مقالاته في «ملحق» النهار وغيره من المنشورات في مجلدات ثلاثة باتت مرجعاً موضوعياً لكل الأحداث الثقافية والفنية وبعض السياسية في ذلك الوقت، وهذا إنما يدلّ على كلّية الاعتراف والتبني والتوقيع مجدداً من أنسي الحاج على ما نشَر أنسي الحاج من آراء نقديّة طوال حياته (قبل انتقاله إلى كتابة الصفحة الأخيرة في «الأخبار» والإشارة إليها بعد قليل) .
وكان أنسي الحاج في «الملحق» منحازاً إلى الفنون اللبنانية، ومشجعاً لها إلى درجة أنه قال مرّة «كنا نكتب إيجاباً عن أعمال فنية لم تقنعنا كما ينبغي، بهدف تفعيل الفنون والفنانين». وفي مرحلة معيّنة مطلَع السبعينيات، قام جدل في الصحافة بين لبنان ومصر حول أولويّة أيٍّ من البلدين في تصدُّر النهضة الفنية العربية، وجرت مقارنة بين صوت فيروز ومستوى أغانيها، وصوت أم كلثوم وأغانيها، جنَحَ فيه صحافيون مصريون إلى تعظيم أم كلثوم بمبالغات لفظية ومعنوية كبيرة، مقابل فيروز وغيرها، فكتبَ أنسي الحاج مقالاً في صفحته في «الملحق» (منشور في مجلّد «كلمات كلمات كلمات») هاجم فيهِ أم كلثوم وأسلوبها الغنائي وصوتها ونصوص أغانيها، ووصف فنّها بأنه هابط ومسؤول عن تخلّف المجتمع. وقد صدَرت أصواتٌ في الصحافة المصرية تطالب بمنعه من دخول مصر. وكيف لمن قال عن فيروز في مقال بعنوان «أحبّها بإرهاب» بعد افتتاح مسرحية «يعيش يعيش»: «يا ألله احفظها، فإنْ كنتَ أنتَ الله فهي برهانُك، وإنْ لم تكن أنتَ الله فهي بديلُك». أقول كيف لمن كتب هذا الكلام أن يقبل بمقارنة فيروز بغيرها؟ والمنطق النقدي العلْمي الهادئ، بعد مرور الفعل وردّ الفعل، يرى في أصل المقارنة التي لجأ إليها كتاب مصريون متحمّسون عملاً أخرق لأن صوتَي أم كلثوم وفيروز مختلفان في المعنى والمبنى، وأغانيهما من نوعين مختلفين تماماً، والنصوص لدى الاثنتين لا سبيل إلى وضعهما معاً والبحث عن أفضليات بينهما نظراً إلى الفوارق الحقيقية، فمجرد القول بالمقارَنة يعني أن طارح الموضوع يريد شرّاً لا غير. وللاثنتَين، كما أثبت الزمن، حضور لم يتكرر في غيرهما، وجمال أدائي لم يصل إليه غيرهما، ونصوص أغانيهما كلٌّ في طريق شِعرية لا تشابُه بينها، ولم يستطع أحد أن يبلغَ مَداهُما. فيروز بقيَت وأم كلثوم بقيت. والجماليات الفنية العالية والمتمايزة عندما تتعدّد تصبح فوق المقارنة بين بعضها وبعضها الآخر.
وفي النصف الأول من التسعينيات، أصدر أنسي الحاج ديوانين هما «الوليمة» و«خواتم» بعد سنوات طويلة نسبياً عن «الرسولة». ويبدو أن القصيدة الطويلة «الرسولة» أتعبَته في شكلها المتمادي السكران بموسيقى الوَلَه على انضباط مراقَب ومدروس، وفي محتواها العاطفي الشاهق بتردداته والدوائر الهوائية الجامحة التي كوّنها في مسيرِه. كما يبدو أن أنسي وصل في «الرسولة» إلى حيث أراد شِعرياً من تلك المرحلة في عمْره، فراح في ديوانيهِ «الوليمة» و«خواتم» إلى الحكمة، إلى التأمل، إلى التحديق في الحياة والأشياء حتى ينبجس منها نور يقول له ماهيتها وأصلها. (وقد صدرَت مجموعته الشعرية كاملةً عن «قصور الثقافة في مصر»، وهذا تطوّرٌ إيجابي في التعاون الثقافي بين لبنان ومصر).
لم يكن أنسي شاعراً فقط في الديوانين الأخيرين المذكورين، فقد تحوّل أيضاً إلى عالِم يريد أن يبتكر ما لم يبتكر غيره في «معالجة» شؤون كبيرة أو صغيرة في معركة الإنسان مع الدنيا وما فيها وما بعدها. وعلى رغم الرفض الدائم والبحث الدائم والضياع الدائم، كان أنسي كالمزارع الذي يعرف الشجر والطبيعة والطيور ولا يتوقّع جديداً على ما يعرف، لكنه يصرف وقتاً في الانتظار، ويجد متعة فيه والانتظار عنده ليس محطة عابرة بل دوام كامل. أعتقد أن أنسي الحاج في ديوانيه الأخيرين كان قد ملّ من شيء، أُرهِق من شيء، يئسَ من شيء ونادراً ما فرِح في شيء، فتحوّلت تململات الفُيوض الهادرة، لُغةً تحاول استدراك الزمن. وثمة شيءٌ من ذلك «الملعون» الذي كانه في بدايته، قد مات!
بعد «النهار»، انتقل إلى جريدة «الأخبار» ليصبح في عِداد كتّابها الرموز. منذ مقاله الأوّل في «الأخبار»، كان واضحاً أن أنسي عاد إلى الحياة. ولأنه يعرف قيمة الحياة أخذَت مقالاته صفةَ التجدّد في الأفكار التي يطرحها والمسائل التي يعلّق عليها. مقالاته في «ملحق النهار» كانت تناوُلاً لمواضيع آنية. أمّا في «الأخبار»، فكانت تذهب نحو الفكر، نحو ما يجري في الإنسان من تحوّلات، نحو مراقبةٍ عقلية استفهامية للعالَم من لبنان إلى العالم العربي إلى كل العالم. حتى الموضوعات الثقافية العامة تَوارَت عنده لصالح كتابة التجربة الذاتية وتفرّعاتها وكيف ينظر إلى الشعر والنثر والفنون من زوايا تاريخية استقرائية لا زوايا الانفعال. بمعنى أن الكاتب أنسي الحاج في «الأخبار» كان غير الكاتب في «النهار». وقد كان هذا الانتقال مدخلاً عريضاً لكي يناقش أنسي مع نفسه أفكاراً سابقة واقتناعات سابقة وأحكاماً سابقة عمن كانوا حوله من الأشخاص أو التجارب والخبرات. ولعلّ أصرح مراجعاته كانت تلك التي ناقض فيها كثيراً من المقولات التي رددها أو آمَن بها سواء في شِعره أو في كل تجارب الشّعر الحديث أو حتى في «النظريات» السياسية التي رافقت عمره.
أرسلت خالدة السعيد إلى زوجها أدونيس في باريس رسالة تقول له فيها إنك ستكتشف قريباً موهبة شِعرية كبيرة في لبنان


يبقى سؤال أخير: لماذا شُهرة أنسي الحاج كشاعر في العالَم العربي كانت ضعيفة أو غير موجودة أصلاً إلّا في بعض المنتديات فقط، وهو كان من الشّعراء الأوَل في التخطيط للحداثة الشّعرية واقتحام عالَم الأدب بها، وله في لبنان مريدون كثر تأثّروا به وحاولوا وراثتَه شِعرياً؟
السبب الأكبر هو عدم رغبة أنسي الحاج في الظهور. فالمناسبات التي أحيا فيها أمسيات شعرية كانت نادرة جداً. والمقابلات الإذاعية والتلفزيونية أكثر ندرةً. أمّا الحوارات الصحافية، فكانت شبه مفقودة. فأنسي كان يعتبر أن القصيدة الحديثة هي للقراءة لا للتصويت على المنابر، فضلاً عن أنه كان يرى نفسه ضعيفاً حتى لا نقول أكثر، في الإلقاء. وكان يتهرب من المقابلات التلفزيونية كأنها طاعون، ولهذا لا تجد له أرشيفاً مقبولاً في الإعلام المسموع والمرئي، وكل ما صوّره أمام كاميرا كان «مسحوباً» إليه كأنما في ساعة تخَلّ. لم يكن الرجل انطوائياً كما قد يفسّر بعضهم، لكنه كان لا يأنس إلى الإعلام ويفضّل عليه الوقت الذي يُمضيه في القراءة أو في الكتابة، شِعراً ومقالات، أو في الطبيعة التي كانت ملاذاً آمناً من انشغالات لا تنتهي، أو في الدوام اليومي في الجريدة. أمّا ليلُه فكان للتسلية والأصحاب. والجواب عن هذا السؤال قد يذهب بنا إلى مشكلة حسّاسة في لبنان والعالَم العربي معاً هي -للأسف -الطائفية. والدليل «الأبلغ» أنك إذا سألت (بعض) شعراء مسلمين في لبنان عن أهم شعراء الحداثة لقالوا أدونيس ومحمد الماغوط ومحمود درويش. أمّا إذا سألتَ (بعض) شُعراء مسيحيين لبنانيين السؤالَ نفسه لأجابوا يوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا!
هل في هذا جوابٌ؟ أم من الأسباب ما يُعيدُنا إلى وقائع الحداثة الشعرية التي قطعَت مع ماضي الشّعر العربي وأوزانه وقوافيه وموسيقاه المسموعة والمُهَندَسة إيقاعياً، وسافَرت إلى شِعر نثري وتفعيلة، وأنسي كان في المعركة قائداً أساسيّاً لقصيدة النثر التي بناها من ضمن ما بناها، حسب أدبيّاته، على «المجانية»... والمجانية شِبهُ سُبّة في الفنون وغير مرحّب بها عند الجمهور؟ أم حتماً سنمرّ على «قنبلة» الغموض الذي يكتنف أغلب شِعره الأول الذي تعرّف قارئ الشّعر على أنسي من خلاله وسَوادُ أعظم القرّاء عدوّ الغموض، ناهيك بأنّ أنسي لم يكن يهتم شخصياً بالانتشار سواء كهدف يقوم به بيدِه، أو عبر وسائط أخرى من مؤسسات، مستنداً إلى أن الأجيال المقبلة ستسأل، ومن يسأل سيعرف.
وعلى سبيل الدعابة التي كان يطرب لها أنسي الحاج، رويَ أن الشاعر محمد العبدالله ابتكر منهجاً نقدياً سمّاه «المنهج الطائفي» ودرَس شخصيّتين أدبيتين هما أنسي الحاج والشاعر الروائي رشيد الضعيف، فطلَع بنتيجة هي، كما قال، أن أنسي «طائفي» وأن الضعيف «علماني». نُقِل هذا الاستنتاج إلى أنسي الحاج فضحك ثم ضحك ثم ضحك وقال «ممكن تجي إيام نلْحَق فيها بعضنا لهون؟».