قبل أيام، رحل عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه (1935 ـــ 2023) عن عُمر ناهز 87 عاماً، بعدما نَشر عشرات الكُتب والمقالات التي تُرجم بعض عناوينها إلى العربية مثل «اللاأمكنة: مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة». في هذا الكتاب الذي صدر عام 1992، قدم أوجيه بعض المفاهيم الأكثر شهرةً في الأنثروبولوجيا. على سبيل المثال، حمل مفهوم «مساحات المجهوليّة» سيناريو قاتماً عن الحياة الحضرية والمجتمعات المعاصرة. أصبح تعبير «اللامكان» وصفاً لكُلّ مكان يمحو الهوية ويرسّخ الرتابة والبرودة ونقص الشخصية والذاكرة مثل غرف الفنادق، وأجهزة الصراف الآلي، والمتاجر، ومحطات المترو والمطارات، ومخيّمات اللاجئين، ومحلات السوبرماركت، والطرق السريعة، وما إلى ذلك.إنّ دلالة «اللامكان» المفاهيمية تكتسب أهميةً خاصةً مع عرض فيلم «أوبنهايمر» ليس فقط بسبب موت واضِعها (أي رحيل أوجيه). مثلاً، كتبت مارغريت دوراس فيلم «هيروشيما يا حبّي» عام 1959 ليُضيء على مشهد التحول الذي يعيشه البطل خلال سيره ليلاً في مدينة هيروشيما بعدما دمّرتها قنبلة أوبنهايمر النووية. نرى كيف تحولت المدينة إلى مدينة أخرى، كما كانت الحال مع كوين، بطل إحدى القصص في «ثلاثية نيويورك» للروائي بول أوستر. أحبّ كوين المشي في شوارع مدينته، التي أصبحت بالنسبة إليه متاهةً من الخطوات التي لا نهاية لها. شعر بالضياع، والتخلّي عن نفسه، والانحسار، إذ أصبحت المدن هي نفسها، لكن في أمكنة أخرى.
وسّع أوجيه الأنثربولوجيا اللامكانية لتضمّ التفكير في مشكلة الاقتصاد والتعليم في عصر ما بعد الحداثة، مُعتبراً أنّه في حالات الفقر التي نعيشها اليوم، لا مفر من إعطاء الأولوية للأهداف قصيرة المدى وطرق تحقيقها (مساعدات طارئة، خطط اجتماعية، تدريب مهني مدى الحياة)، لكن في الوقت نفسه، يتم تجاهل مسألة المعرفة. فالسياسات التعليمية الحالية، في نظر أوجيه، تكون دوماً أقل توجهاً نحو اكتساب المعرفة بحدّ ذاتها. يتطور هذا التوجه بسرعة، خصوصاً في البيئات «المحرومة اقتصادياً»، ويكون لدى الأطفال فرصة ضئيلة أو معدومة للوصول إلى أنواع معينة من التعليم. رأى أوجيه أنّه في بلد مثل فرنسا، لا يميل نظام التعليم اليوم إلى تقليص التفاوت الاجتماعي، بل يسعى إلى إعادة إنتاجه. ويشير إلى أنه لا يوجد أي غرض آخر للبشر على الأرض سوى تعلّم التعرف إلى بعضهم البعض ومعرفة الكون الذي يحيط بهم، وهي مهمة إنسانية لا نهائية يشارك فيها كل فرد. فالمعرفة هي الطريقة الوحيدة للتوفيق بين الأبعاد الثلاثة للإنسان: الفردي والثقافي والعام. ومن السذاجة الظنّ بأنّه إذا قررنا التضحية بكل شيء من أجل التعليم والبحث والعلوم، وإجراء استثمارات ضخمة وغير مسبوقة في التعليم على كل المستويات، سوف نحصل على المزيد من الوظائف والازدهار. لكن لا يحتاج نموذج المعرفة إلى تفاوتات اجتماعية أو اقتصادية، بل على العكس من ذلك، هذه التفاوتات هي عوامل الركود. إنها عقبات، وتشتّت كبير للطاقة، وهجوم على الإمكانات الفكرية للإنسانية. مع ذلك، من المؤكد أن السماح للفجوة بين الأكثر تعليماً وغير المتعلمين بالزيادة، يعني تفاقم إفقار الغالبية العظمى بشكل لا يمكن إصلاحه. هذه الفكرة فيها شيء يوتوبي مِن أوجيه، هذا صحيح. هو يعترف بأن السياسات الحقيقية بعيدة كل البعد عن التحرك في هذا الاتجاه، وأننا نشهد الحماقات التي تسبّبها الطائفية والعنصرية والجهل كل يوم. ولكن ما العمل؟ لا يزال العنوان الاستفهامي لكتيّب لينين يتكرر في عصرنا، حيث كل شيء موضع شك، وخصوصاً الرؤى العظيمة للمستقبل التي رُسمت في القرن التاسع عشر، وأودت بحياة ملايين لا حصر لها عندما حان الوقت «لوضعها موضع التنفيذ». كما أنّ التداعيات المحيطة بـ «السرد الكبير» النيوليبرالي ومثاليه (الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق) موضع شك أيضاً، نظراً إلى انتكاساتها سواء كانت تقنية (عدم المساواة المتزايدة) أو سياسية (الأنظمة غير الديمقراطية تعيش حياة صعبة) أو أيديولوجية.
يُحاول أوجيه في كتابه «المستقبل» (2015) الإجابة عن سؤال «ما العمل؟» لوقف هذا التدهور العالمي. في البداية، يحدّد نقطتين أساسيتين: الأولى أن العلم يتطور بسرعة متزايدة وخيالنا عاجز عن مواكبة ذلك، ونحن غير قادرين اليوم على وضع تنبؤ دقيق لحالة العلم بعد خمسين أو حتى ثلاثين عاماً، أي إننا نواجه منطقة هائلة من عدم اليقين. فالتقدم المتسارع للعلم منذ بداية القرن العشرين يتركنا اليوم في مواجهة آفاق ثورية مع فتح عوالم جديدة: من ناحية، الكون ومجراته التي لا تُعد ولا تُحصى (والتغيّر الهائل في الحجم الذي يصاحبها، ما سيغيّر الفكرة التي نملكها عن الكوكب والإنسانية). من ناحية أخرى، هناك الحدود بين المادة والحياة، والأسرار الداخلية للكائنات الحية، وطبيعة الوعي (الأفكار الجديدة التي ستؤدي إلى إعادة تعريف الفكرة التي يمتلكها الأفراد عن أنفسهم). أما النقطة الثانية، فهي أنّ عدم المساواة في العلم أكبر مما هي عليه في الأمور الاقتصادية. في المجال الاقتصادي، يتسم نظام العولمة باتساع الفجوة بين الأغنى والأكثر فقراً. ويمكن رؤية هذه الفجوة المتزايدة حتى في البلدان المتقدّمة نفسها. ولا يزال الأمر أكثر وضوحاً في البلدان الناشئة مثل الصين أو الهند، حيث تكون النتيجة الطبيعية لوصولهما إلى السوق العالمية، تأكيداً داخلياً على الفجوة بين الأغنياء جداً والفقراء جداً. هذا التفاوت العالمي في العلم والاقتصاد داخل البلدان نفسها يحلّ تدريجاً محلّ المعارضة التقليدية بين الشمال والجنوب، على الرغم من أنّ هذا لا يزال وثيق الصلة: الحقيقة هي أنّ سياسات الرعاية الاجتماعية تظلّ أكثر كفاءة ومنهجيةً في البلدان الشمالية المتقدمة، بينما تنتقل تدفقات الهجرة من الجنوب إلى الشمال ومن الجنوب الفقير إلى الجنوب الصاعد، لكن ليس من الشمال إلى الجنوب.
في المجال العلمي، لا يزال الوضع أكثر خطورة. كما هي الحال في المجال الاقتصادي، تظهر أقطاب جديدة للتنمية (الصين، الهند). لكن الفجوات الداخلية هائلة في البلدان «الناشئة علمياً». وهي آخذة في الاتساع، بالمناسبة، في البلدان المتقدمة أيضاً. والسبب في ذلك أنّ البحث العلمي اليوم يتطلب وجود تراكم لرأس المال المالي والفكري. هذا التركيز موجود فقط في أماكن قليلة متفرقة على الكوكب.
لاحظ الناقد والمفكر الفرنسي الأميركي جورج شتاينر منذ سنوات أنّ ميزانية البحث في «جامعة هارفارد» وحدها كانت أكبر من مجموع الميزانيات البحثية لجميع الجامعات الأوروبية. ما يبدو أنه يتشكّل في الأفق هو عدم مساواة ثنائية المستوى، بين البلدان المختلفة (من غير المعقول أن تتمكن رواندا من اكتساب الإمكانات العلمية للولايات المتحدة) وداخل البلدان المتقدمة وغير المتطورة على حد سواء. ويمكن للمرء أيضاً أن يلاحظ، في هذا الصدد، أن حالة عدم التوازن الداخلي تمنع معظم البلدان المتقدمة من وضع خطط متّسقة للمساعدة العلمية والفكرية للبلدان الأقل نمواً، بينما من ناحية أخرى، لا تملك العناصر الأكثر تميزاً فكرياً في البلدان الفقيرة، مثل أفريقيا، سوى خيار الهجرة بشكل دائم. وتعتبر هجرة الأدمغة وإضفاء الطابع الفردي على المهن العلمية من سمات العولمة.
وفي عالم الشبكات المعولمة، تتركز الخبرة العلمية والقوة الاقتصادية والسلطة السياسية في عدد قليل من النقاط العقدية، ما أدى إلى عدم انتشار الديمقراطية، بل حكم الأقلية الكوكبية التي يسيطر عليها كل أولئك المرتبطين بطريقة ما بمجال السلطة السياسية والعلمية والاقتصادية، ويتم الاحتفاظ بها وإعادة إنتاجها من قبل جمهور المستخدمين السلبيين كالمستهلكين، وبواسطة الكتلة اللامحدودة لجميع المستبعدين من المعرفة والاستهلاك.
حذَّر من الفجوات في العلم والاقتصاد في ضوء استيلاء الأوليغارشية العالمية على السلطة


يطلق أوجيه على الأوليغارشية والمستهلكين والمستبعدين مجالات اجتماعية، علماً أن مصطلح «الطبقة» بلغة القرن الماضي، أو «الدولة» بلغة القرن الثامن عشر، كانت تفي، لكنه لا يتجاهل التوترات والتناقضات الداخلية لكل مجموعة. كما لم يتجاهل البُعد المكاني لكل فئة من هؤلاء، لكنه أكّد أن الثلاثة يعيشون أزمةً غير مسبوقة نتيجة ضخامة الفجوة المتزايدة بينهم في عالم اجتماعي اقتصادي متوسع يتناقض مع الأبعاد المحدودة للكوكب. وهذا ما كشفته الأزمات المتلاحقة مثل جائحة كوفيد – 19، والحرب الروسية – الأوكرانية.
ليس أمامنا إلا اليوتوبيا والوقت. هذه خلاصة فكر أوجيه، عبرهما نجازف باكتشاف أن المشكلات الحالية كانت مجرد مقدمة لاضطراب أكثر جذرية، حيث ما زلنا عاجزين عن معرفة ما إذا كان المستقبل سيكون للأفضل أم للأسوأ، إذا كانت اليوتوبيا السوداء للأوليغارشية الكوكبية ستتحقق، كما يبدو على وشك الحدوث، أو ما إذا كانت ستظهر مقاربات جديدة للعالم بعد انعكاس تاريخي غير متوقع، ربما بفضل بعض الأمور الهامة مثل الاكتشافات العلمية.
بالنظر إلى كل ذلك، يبدو أنّ هناك سبباً وجيهاً للقلق بشأن المستقبل. لقد حذرنا أوجيه من اللامكان ومن الفجوات في العلم والاقتصاد في ضوء استيلاء الأوليغارشية العالمية على السلطة والمال والمعرفة والأمكنة، وأصبح حدوث أي سيناريو مختلف عن ذاك الذي تخيّله منظرو «نهاية التاريخ»، أكثر واقعيةً يوماً بعد يوم. على أي حال، في الوقت الحالي، رحل مارك أوجيه من دون معرفة إجابة على تساؤلاته، تركها للزمن ليجيب عنها: هل محكوم على «النيوليبرالية» أن تلاقي نفس مصير «الشيوعية»؟ وهل ستكون «نهاية التاريخ» آخر «الروايات الكبرى»؟