تختصر كلمات جمال زقوت في إهداء كتابه الجديد «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية ــــ خمسة فصول وملحق صور وتقديم محمود شقير من القدس)، مأساة الشعب الفلسطيني منذ النكبة. أجيال مرّت في سبعة أسطر شكّلت كلمات الإهداء. إنها صورة بانورامية لملحمة يخوضها شعب بصموده الأسطوري، وتضحياته التي تفوق الخيال، وما زال. أما في سرديّة جمال زقوت، فإننا نتتبّع واحدة من سيرة ملحمة فردية أمام ما عاناه على أيدي الاحتلال، فكأنما سيرة زقوت مُلازمة لسيرة غزة التي قال عنها محمود درويش: «تحيط خاصرتها بالألغام... وتنفجر... لا هو موت... ولا هو انتحار/ إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة». كتاب جمال زقوت سرديّة تتدفق بأسلوب حكائي وشيّق في آن، لأنه اغتنى بمسيرة مليئة باليوميات الفلسطينية جرّاء الاحتلال الإسرائيلي، وممتلئة بيوميات شاب كانت ولادته في مخيم الشاطئ في غزة «ما بين الرمل ومياه البحر»، ومُشبّعة بتواريخ نضالاته/ نضالات شعبه والمفاجآت التي تكبّدها، وخصوصاً في السجون الإسرائيلية.
يصف بيته الوالدي في مخيم الشاطئ بالكوخ، ومساحته 40 متراً مربعاً، و«كنا عشرة أشخاص». يعطي صورة عن التعليم ونخبة المعلمين الذين عملوا «على تعبئتنا بالوطنية والتحرير، وعن «جيفارا غزة»، وإسماعيل هنية وقد تلقينا دروساً دينية في الصغر، إلى بداية الوعي ومشاهدة الجرافات الإسرائيلية تهدم البيوت، إلى الهمس عن تشكُّل خلايا للمقاومة، ومكانة وهيبة ودور الدكتور حيدر عبد الشافي الوطني وصاحب الضمير»، وأيضاً نقرأ عن قطاع غزة الذي «شاركت مدنه ومخيماته عن بكرة أبيها يوم وفاة جمال عبد الناصر، بمشاركتي حافي القدمين، إذ إنه شمل باهتمامه الرئاسي ورعايته المميزة فوفّر لهم التعليم المجاني في الجامعات المصرية»، وكان «الزعيم العربي الوحيد الذي وقف إلى جانبهم»... مصر التي دخلها زقوت متفوقاً إلى كلية الطب في «جامعة عين شمس» ما لبثت أن طردته بعد ذهاب السادات إلى «إسرائيل»، وأبعدت أخاه بشير الذي سقط شهيداً خلال اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان عام 1978، وكان قدوته في العمل السياسي والتوجهات التي اختارها في الجبهة الديموقراطية.
من القاهرة إلى صوفيا في بلغاريا لإتمام الدراسة، وقد رافقها كمّ هائل من الإشكالات وتغيير في خيارات الدراسة، فانتهت إلى العلوم الاجتماعية، وانتهى معها حسم العودة إلى غزة بديلاً من دراسة الطب وتفوّقه المتوقع له فيه، وأيضاً في اختياره نائلة عايش أثناء دراستها في صوفيا زوجةً ورفيقة اعتقالات في سجون العدو الإسرائيلي، وأدت واحدة منها إلى الإجهاض، ولكن مع قوة إرادة لا تقل عن شريكها جمال.
مسيرة مليئة باليوميات الفلسطينية جرّاء الاحتلال الإسرائيلي


في صوفيا، وصلت أخبار الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكانت قد سبقتها ــــ يقول زقوت ـــــ زيارة لأبو جهاد وممدوح نوفل، حيث وضعا الطلاب هناك في أجواء احتمال حصول هذا الاجتياح. ويضيف زقوت أنّ المحادثات مع الحزب الشيوعي البلغاري كانت متوترة بشأن تطوع مئات الطلبة للمجيء إلى لبنان للتصدي للاجتياح، وأن مسؤول ملف فلسطين في الخارجية البلغارية كان «ذكيّاً ومتابعاً لأدق التفاصيل، وحاول منع تنفيذ قرار التعبئة لقناعته بأن الحرب حُسمت منذ بدايتها، وكان ينصح ببقاء الطلبة لإكمال امتحاناتهم في إطار الاستعداد لمرحلة ما بعد بيروت، لكن أمام إصرار الطلبة تقرّر منح طلاب غزة والضفة وثائق سفر بلغارية بأسماء حركية، وخصصت لنقلهم ثلاث طائرات إلى دمشق. وفي دمشق، ومنها إلى البقاع، بدأت حماسة الشباب بالفتور نظراً إلى سرعة الاجتياح وانهيار قوات الثورة السريع أمامه. ويتوقف زقوت بحسرة المتسائل قائلاً: «بتُّ متأكداً من أنّ أحداً لم يُحاسَب، فقد حدثت انهيارات خطرة نتيجة أخطاء كبيرة وقعت فيها بعض القيادات في الجنوب، ومع ذلك لم يسأل أحدٌ أو يسائلها».
في غزة، شهد شتى أنواع التخفي والتعبئة، والاعتقالات المتتالية، وأنواع التعذيب التي لا توصف في كل مرة اقتيد بها مكبّلاً، وكلها «أعطاني الدرس الأهم هو أن الإنسان وعدالة موقفه وقضيته أقوى من عنجهية المحقق، وأن القوة الفائضة بالغطرسة وشعور المحقق بها هي نقطة ضعفه الاستراتيجية». تستحق نائلة عايش الفصل الثالث من الكتاب، هي التي أصبحت زوجته، وشريكته في النضال، ودخولها المعتقلات والتعذيب إلى حد الوصول إلى الموت بسبب الإجهاض، وتقاسمها طفلها مجد، ابن الأشهر، إحدى زنازين الاعتقال.
أما الفصل الرابع، المخصص للانتفاضة عام 1987، فيستحق الكثير من النقاش معه، وخصوصاً من الجهات المشاركة، وعليها تقع مسؤوليات كشف الخبايا التي أدت إلى تفكيك وتفتيت انتفاضة استطاعت أن تترك أثرها على معنويات الجيش الإسرائيلي. يفسّر زقوت تآكل الانتفاضة، معتبراً أنّ أحد أسبابها هو دخول عرفات السري في محادثات أدت إلى أوسلو بسبب صعود «حماس». (ننصح هنا بمراجعة الندوة المنشورة في العدد رقم 115 صيف 2018 من مجلة «دراسات فلسطينية»، التي نظمتها «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 في «جامعة بير زيت»، وشارك فيها مندوبو أحزاب فلسطينية كانوا قادة لتلك الانتفاضة. ومن المشاركين جمال زقوت الذي تحدّث عن تناقضات الانتفاضة، مع إصرار الكلّ على فرادتها وقوتها، وتحميل بعضهم سياسة عرفات مسؤولية اختراق الداخل وتفتيت الانتفاضة، لحسابات مؤتمر مدريد. وهنا نورد كشفه لكاتبة هذه السطور الشيخ سيد بركة الذي يعدّ مع الشهيد فتحي الشقاقي من مُؤسسيّ «حركة الجهاد الإسلامي» وهو يرأس حالياً «منتدى الأمة» في فلسطين. إذ قال إنّ «روح النصوص الثورية وحجم الاشتباك مع العدو وحجم الاعتقالات في صفوف «حركة الجهاد» وشهادات إعلام العدو كلّها تؤكد أنّ الإسلام الثوري الذي مثّله «الجهاد» حينها هو صاحب السهم الأكبر في تفجير الانتفاضة المباركة». وأضاف: «أسجّل بكل ثقة وفخر أنه كان لي شرف كتابة البيانات كافة، وخصوصاً من تاريخ 6/10/1987 (معركة الشجاعية) مروراً بمنشورات شهر كانون الأول (ديسمبر) 1987 (تفجّر الانتفاضة) لغاية اعتقالي في الثاني في آذار (مارس) 1988 وتلك البيانات كانت أحد أهم أسباب إبعادي إلى لبنان عام 1989».
ينهي زقوت سرديته بالتساؤل: «هل كان قدراً أن نبدّد إنجازاتنا بأيدينا؟ أم أنّ المراجعة ستظل ثقافة غريبة عن سلوك قيادة الحركة الوطنية الراهنة؟».