على مدى أكثر من ربع قرن أمضاها في أوروبا، عكف الباحث والأكاديمي اللبناني بدر الحاج على جمع صور ملتَقَطة في القرن التاسع عشر، تشكّل الوثائق المرئيّة الوحيدة لبلادنا، وتوفّر معلومات قيّمة في الأبحاث المستقبليّة. كانت النتيجة كتاب Beirut 1840-1918/ A Visual and Descriptive Portrait، الذي جاء بحثاً مفصّلاً وموثّقاً في التاريخ المصوّر للعاصمة اللبنانية منذ أول صورة التقطت فيها في شتاء 1840 لغاية صورة دخول قوات الاحتلال البريطاني عام 1918. ترافق صدور العمل مع معرض «بيروت 1840 1918 ــ صور وخرائط» في «متحف نابو» أولاً، قبل حلوله أخيراً على «بيت بيروت». الباحث بدر الحاج خصّنا بنصّ عن رحلته الطويلة النفَس التي حداها حسّ عميق ينطلق من قناعاته القومية بأن هذه البلاد تستحقّ منّا الكثير
في «بيت بيروت» في السوديكو، أعيد افتتاح المعرض المصوّر لبيروت الذي ولد أولاً قبل بضعة أشهر في «متحف نابو» (الهري ، شمال لبنان). «بيروت 1840 1918 ــ صور وخرائط» مجدداً في قلب العاصمة ليتسنّى لأهلها وسائر المواطنين والمغتربين القادمين لقضاء فصل الصيف رؤية ماضي المدينة المصوّر. هي نقطة ضوء على مجموعة نادرة استلزم جمعها الكثير من السنين والأموال والترحال بين المزادات والمكتبات والمجموعات والمتاجر. هذه المجموعة هي ما تبقى لنا من وجه بيروت التي كانت. بيروت قبل مرور البرابرة، بأشكالهم. المعرض باقٍ حتى أواخر الخريف.
طريق بيروت- دمشق من الحازمية (تصوير لويس فين حوالي 1860)

باعتقادي، إن هذا المعرض يطرح موضوعاً على درجة كبيرة من الأهمية، وهو إجمالاً لا يحظى بالاهتمام من قبل المؤسسات التربوية والمكتبات العامة في بلادنا. إن البحث عما تبقى من تاريخنا المصوّر، واقتنائه واستعماله في الأبحاث الاجتماعية والتاريخية هو أمر أساسي لا مفر منه. ولكي لا أقع في التعميم، هناك بعض الجامعات والمؤسسات في لبنان قد بادرت إلى جمع وحفظ ما يُقَدَّم لها من صور فوتوغرافية التقطت بمعظمها من قبل مصورين محليين. لكن هذه الخطوة لا تكفي، إذ إن الأكثرية الساحقة من الصور التي يحتفظ بها محليّاً هي تلك التي التُقطت منذ مطلع القرن الماضي وتكاد تنعدم الصور الملتقطة في القرن التاسع عشر. من ناحية أخرى، إن الصور التي التقطها مصوّرون أوروبيون في بلادنا منذ مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر حتى قبيل الحرب العالمية الأولى، هي الصور الأهم والأندر. إذ تقدّم لنا معلومات على درجة كبيرة من الأهمية سواء حول النسيج العمراني لمدننا وقرانا أو الأزياء الوطنية أو الأعمال والحِرَف اليدوية. إلخ. كل ذلك أصبح اليوم طيّ النسيان. الحِرَف اليدويّة مثلاً بمعظمها انقرضت، والنسيج العمراني دُمّر تدريجاً بحجّة الحداثة والتطوير. لكن السبب الحقيقي الكامن وراء ذلك الدمار هو جشع رأس المال وجهل أصحابه الذين اشتروا السلطة بعد الحرب الأهلية، وأسهموا في تدمير أبرز معالم الوسط التجاري الذي كان بعضه قد سبق ودمرته الحرب.
السبب الحقيقي الكامن وراء ذلك الدمار هو جشع رأس المال وجهل أصحابه الذين اشتروا السلطة بعد الحرب الأهلية


مأساة بيروت الحالية تضاعفت بعد حادثة تدمير المرفأ وما نتج عنها من ضحايا وانهيار قسم كبير مما تبقى من المدينة وأبنيتها التراثية. لم تتعرض مدينة عربية لهذا القدر من الدمار الذي تعرضت له بيروت. لن أعود إلى التاريخ القديم والزلازل، ولا إلى ما دمّره العثمانيون من أزقة وشوارع في المدينة القديمة لأسباب «عسكريّة» كما قيل، ولا إلى القصف الإيطالي عام 1912، ولا إلى قصف الحلفاء عام 1917، بل يضاف إلى كل ذلك، حروب اللبنانيين أنفسهم، وحرب رأس المال الجشع الذي انقضّ على المدينة واغتصبها وجعلها حجراً بلا روح. هذا ليس اتهاماً، بل هو الواقع.

أبراج المرفأ الثلاثة: برج البحر (يسار) - برج برقوق (وسط) - البرج البرّي (يمين). (تصوير جان شو سميث 1852)

الأسواق القديمة القريبة من المرفأ التي كانت تعج بالمواطنين ليل نهار، أصبحت شوارع فارغة بلا حياة، منطقة أشباح. ساحة الشهداء التي تظهر في الصور القديمة تتوسطها حديقة كانت ملتقى أهل المدينة أيام العطل والأعياد، أصبحت موقفاً للسيارات. المباني التراثية النادرة التي كانت تحيط تلك الساحة، استبدلتها ناطحات سحاب من فولاذ وزجاج. كل ذلك جرى بشكل ممنهج. حتى إنّ تمثال الشهداء الذي كان من قبل، والذي نفذه النحات اللبناني النوراني يوسف الحويك، أزيل وأعطي لمتحف سرسق. نزعوه واستبدلوه بعمل نحتي غربي لفنان إيطالي وفيه سحنات أشخاص لا يشبهون وجوه اللبنانيين أصلاً. هكذا ثأرت سلطة الطوائف من يوسف الحويك لأنه كما والده، سعدالله الحويك، كان مناهضاً للاحتلال الفرنسي. رغم أن الحويك هو ابن أخ البطريرك الياس الحويك الذي كان يخدم الجنرال غورو ومخططاته.
فندق بسّول وإلى يمينه «الفندق الجديد» (تصوير ميشيل الحداد 1901)

معظم الصور التي عرضت في «نابو» والآن في «بيت بيروت» قمت باقتنائها خلال فترة زمنية تجاوزت ربع قرن خلال إقامتي في أوروبا. لكن بعض الصور التي تم عرضها والخرائط، تعود إلى متاحف عالمية حصلت على حق استعمالها ونشرها. لم يكن اقتنائي لتلك الصور مجرد هواية على الإطلاق، إنما كان حسّاً عميقاً منطلقاً من قناعاتي القومية بأن هذه البلاد تستحق منا الكثير، وإنه أفضل للمرء أن يصرف أمواله وتعبه لاقتناء صور لبلادنا كما كانت، وجمع ما طمسه النسيان بدلاً من مظاهر الترف الخالية.
إن الأكثرية الساحقة من أجيالنا الجديدة تجهل كيف كانت هذه البلاد. الاستعمار الغربي الذي مزقها وسيطر عليها ولا يزال، قد شوّه المفاهيم والثقافة والمعرفة والتاريخ ونجح في مسعاه. تحوي اليوم كتب التاريخ التي يتم تدريسها في مناهجنا ومعاهدنا، الكثير من الكذب والضلال واختراع بطولات وهمية وتجاهل الأبطال الحقيقيين. الحقائق تنقلب رأساً على عقب وتنمو أجيال عقولها مستلبة بالغرب الاستعماري وأخرى غارقة في التعصب المذهبي وفي مراحل العصور الغابرة من الحروب الدينية التي مرت على بلادنا.
تمثال الشهداء الذي نفذه النحات اللبناني النوراني يوسف الحويك، أزيل وأعطي لـ «متحف سرسق»!


أهميّة الصور الفوتوغرافية الملتقطة في بلادنا خلال القرن التاسع عشر هي كونها الوثائق المرئيّة الوحيدة لهذه البلاد. وعلى الرغم من أن بعضها يحمل في مضمونه رؤية استشراقيّة، إلا أن معظمها يقدّم لنا معلومات على درجة كبيرة من الأهمية يعتمد عليها في الأبحاث المستقبليّة.
لقد واكبت هذا المعرض بكتاب من جزأين أنجزته بالتعاون مع السفير سمير مبارك بعنوان «بيروت 1840 – 1918» صدر عن «دار كتب للطباعة والنشر». الكتاب هو بحث مفصّل وموثّق في التاريخ المصوّر للمدينة منذ أول صورة التُقطت فيها في شتاء 1840 إلى آخر صورة لدخول قوات الاحتلال البريطاني عام 1918.

منازل حي رأس المدوّر (تصوير لويس فين 1860)

بالإضافة إلى التاريخ المصوّر، هناك قسم أساسي في الكتاب، هو بحث موثق لنصوص كتبها رحّالة أجانب بلغات عدة في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. أهمية النصوص هذه أنها تلقي المزيد من الضوء وتعطي الكثير من الشرح والمعلومات عن تاريخ المدينة وحياتها الاجتماعية وتقاليدها ونشاط ناسها وأسواقها وأحيائها وخاناتها وسورها وساحاتها العامة وحدائقها إلخ.
ساحة البرج (تصوير تانكريد دوماس حوالي 1880)

مهما قيل في مآسي بيروت الحالية، إلا أنها في الواقع مرآة للوضع اللبناني العام. تبقى بيروت المدينة التي بعثت الفكر النهضوي في بلاد الشام وكانت دائماً منبراً لأصوات التحرّر والوحدة في المنطقة. احتضن أبناؤها كل حركة تقدم في العالم العربي ولحق بمناضليها الظلم والقتل على أيادي كل غاصب ومحتل وصولاً إلى العدو الإسرائيلي في التاريخ المعاصر. قُصِفَت، حوصِرَت، تم تجويعها، كانت أول مدينة عربية يحتلها الصهاينة بعد فلسطين، لكن أبطالنا في خضم مآسيهم، سحقوا جبروت المحتل وطردوه ذليلاً، فكانت بحق عاصمة المقاومة رغم جراحها النازفة.

معرض «بيروت 1840 ــ 1918 صور وخرائط»: لغاية الأحد 8 تشرين الأوّل 2023 ــ من الساعة العاشرة صباحاً لغاية السابعة مساءً ــ «بيت بيروت» (السوديكو). الدخول مجاني. للاستعلام: 71/028969