لمزامير داوود عيد محمود،توراة العهد الجديد، ما بعد الحداثة والتنسيق الأمني وبن غفير،
تحية طيبة وبعد،
سنتان كاملتان مرّتا على اعتقالِكَ في الوقفات التي تبعت مقتل نزار بنات. كان اعتقالاً من قبل ابن جهاز ربما لم يسمع بك أبداً. لم يعتد ابن البارحة ذاك على مطالعة اسمك، ولعلّه لم يقرأ في حياته قط قصة «نمّولة»، ولم يسخر أبداً بكلّ مياصة الأطفال من وَقْع «ترتـّتان ترتـّتان نملة راحت عالدكان» على أذنه. كل ما في الأمر حينها، أن طُلِبَ من مجموعة تعمل وظيفياً في جهاز أمني ما، فارعة الطول والعرض، أن تأتي بكلّ نَفَسٍ معارض، فَقَمَعَت وسَحَلتَ وطالت، وعلى إثر «القمعة» أوتي اعتقال الشاعر والباحث والكاتب والأديب والمحلل والمنقّب والمؤرخ والراوي والقاصّ والمهتم بالميثولوجيا والتاريخ والحفريات والنباتات والأحافير: زكريا محمد.
شاركتُ داوود عيد محمود (هكذا كان اسمه في العهد القديم) مع فادي قرعان وخلدون بشارة في كتابة شهادتنا حول «القمعات والاعتقالات السياسية الداخلية» في مجلة «الدراسات الفلسطينية»، فكتب زكريا نصّ «القطيعة» الشهير، الذي أعلن فيه جهارة قطيعته مع منظمة التحرير الفلسطينية. واقتبس كلماته هنا: «كانت هذه المرة الأولى التي أُعتقل فيها من طرف سلطة يُفترض أنها تمثلني، الأمر الذي أثّر فيّي نفسياً. فأنا ابن منظمة التحرير، وأفنيت حياتي كلها وأنا أجري وراءها، وها هي هذه المنظمة، عبر وليدتها، السلطة الفلسطينية، تعتقلني، وأنا واقف عند الرصيف، لأنني في اعتقادها «أنوي» أن أحتج. لقد اعتقلتني على نيّاتي لا على أفعالي (...) وفي سيارة الاعتقال كان شريط حياتي في منظمة التحرير يمرّ في لقطات متتابعة سريعة في ذهني... وكان ألمي عظيماً، الألم في شفتَيّ وفي يدَيّ، وفي عظامي، وفي عينَيّ، وفي قلبي. وردّدت في نفسي مقطعاً شعرياً لا أذكر مَن صاحبه:
ثمة ضوء ضئيل
ثمة ألم عظيم
وأنا أحاول أن أمسك هذا الضوء بعيني. أحاول أن أقنعها بوجوده».
بعد واسطات وتلفونات لم تنضب لتعريف جهاز الشرطة العتيد من هو داوود عيد محمود؛ خرج زكريا محمد وقتها ولم يوقّع على أي تعهّد، إلا سطراً من إملائه، وضع توقيعه عليه لا غير، يقول فيه: «هذا اعتقال غير شرعي وخارج القانون وأنا لا أعترف به».
وبعد سنتين (3) «اكتَنَفَتْكَ حِبال الموت، أصابتك شدائد الهاوية. كابدتَ ضيقاً وحزناً (4) وباسم الرب دعوت: آه يا رب، نَجِّ نفسي» (9). فَسَلَكْتَ قدّام الرب في أرض الأحياء 14 أوفيتَ نذورك للرب مقابل كل شعبه» (مزمور 116). هكذا رحلت عنا يا داوود.
بوضوح أرعن فاضح، وقفَتْ ثُلّةٌ على رأسك يا زكريا لتنعاك وأنت مكسوٌّ بالأبيض. ثرثروا كثيراً على قبرك، جعّر بعضهم ملء السماعة، ولكنّ جمعاً مُحِبّاً لك لم يسمعهم البتّة، ولم يعرهم أذناً صاغية، كانت أعيننا تتجه صوبك في النعش، وصوب سلمى ورند وأحمد وهم يبكونك. كان حزننا أكبر من ترّهاتهم. باسم هذا وذاك نعوك جميعاً، تخيّل يا داوود، نعوك باسم «أبي خميس وحاشيته»! وجميع من كنت تشتمهم صباحاً في مقهى «زمن»، وعلى المنصة الزرقاء!
تركناهم يثرثرون، يحاولون التمركز وسط الشاشات المتلفزة التي تنقل الجنازة بِحُكْمِ الواجب، أخذوا يجاهرون باسمك عالياً في الرثاء، حتى أجابهم صوت شاب يافع استفزّته المسرحية: «شكلكم ناسيين يوم ما اعتقلتوه».. وعمّ صمت بعدها بين القبور.
سَمِعْتُكَ حينها يا زكريا، كُنْتَ تهلّلُ حينها في أرضِكَ المُنخفضة عنّا، وبالعلامةِ رَدَدْتَ مزامير النبي داوود: «يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ، وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي» (مزمور 131) فعلاً، كانت فوقك تدور العجائب. ولم نستطع إنصافك يومها، لكن الشاب إيّاه بشعره الأشعث المربوط، أخذ حقنا جميعاً.
جميع كتاباتنا لا تنصفك، وأنت البيدر والسنابل البيضاء، وشِعْرُكَ وشَعْرُكَ صوامع القمح الحقيقية وسط ما تبقى من هشاشة الواقع والحكومة وحاشية «أبي خميس»، الذي حفّزك على كتابة الشِّعر، هروباً من الحبس!!
«سألني أحدهم: لماذا تكتب الشعر؟
رددت عليه: لأنه إذا ما كتبت شعر راح أبلش في أبو خميس. وإذا بلشت فيه راح يحبسوني.
يعني: الشعر في الأخير هروب من الحبس.
هاي القصة وحياتك».
احسب لنا يا زكريا في عقر قلبك أنّا كنّا صادقين معك، بتنا وما زلنا نصدّقك ونصادقك، جميعنا أحبّك كثيراً، وتفاعل معك ومع مواقفك ومعرفتك ومكنوناتك ودعْمك للمواقف النبيلة وقضايا الأسرى والأسيرات، ودعواتك لنصرة المعتقلين المضربين عن الطعام، ووقفات عائلة خضر عدنان وأطفاله التسعة على دوّار المنارة. أكثرنا حظاً من كان يصادفك وأنت تجوب شوارع رام الله، ويطرح عليك السلام، ومن كان يقف برهة صمت لقراءة كتاباتك على أقل تقدير، ومن اتفق معك على أن بن غفير وغبائه الممتد بلا حدود مكسب لنا، وأن بيلا حديد، بوطنيتها الخالصة لا بجسمها الممشوق، تضاهي بمنشور لها ما فعلته وتفعله الدبلوماسية الفلسطينية على مدى سنين طويلة.
ليس بوسعنا أن نقدّم ما قدّمته لنا، لكنّ وعداً خجولاً منّا أنّا سنقف عند أنواع الأزهار كثيراً، وألوانها أكثر، وسنسرح في بقايا الآثار، والمِشاط القديمة الحجرية منها والشِّعرية، وسنأخذ وقتنا بتمحيص رسومات الأجران والسِّلال والأقحوان على الفخار العتيق، وسنتخيل شكل الأحافير وتحولها الرث في القشرة الأرضية، وسنحسب في مخيلتنا عمر الصخر والأشجار، وأنماط وأشكال الحياة القديمة وبيئاتها المنقرضة.. كل هذا في كفّة.. وغصن التين العتيق في كفّة أخرى.
«(15) عزيز في عينيّ الرّب موت أتقيائه» وأنت التقيّ الورع للإنسان، والوفيّ للنواة، للبذور، سمعنا صراخك تقول: «(16) آه يا رب، لأني عبدك أنا عبدك ابن أمتك. حَلَلْت قُيودي»، «(17) فَلَكَ أذبَحُ ذبيحة حمد، وباسم الرّب أدعو (18) أوفي نذوري للرّب مقابل شعبه».
هكذا أوفيت نذورك للرب... ورحلت عنا وظلّت مزاميرك بيننا. لك السلام يا زكريا... لقبضتك السلام والوئام.. سننشد من بعدك مزامير داوود، مزامير داوود عيد محمود، مزامير الخلود.
«لا تصلّي الوردة لربّها، ولا تصلّي لغيره. أما أنا فسرّي في قبضتي، وأغنيتي في غصن التين. ولا أستطيع أن أخبركم بأكثر من هذا. أنا أعطيكم طرف الخيط، وأنتم تسحبونه. أعطيكم اسم النملة وأنتم تتبعون نسبها. وهناك كتب أنساب كثيرة مفيدة. أما بخصوص التين، فلديكم كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية حيث يُهجّن التين بالحديد تحت النجمة. الغصن تين والبرعم حديد.
من الحديد جئنا، وإلى الحديد نعود.
من النشيد جئنا، وفي النشيد نموت» (ز.م)

* كاتبة من القدس المحتلة