يدخل محمد حسين بزي في روايته «أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون» في حلقة الرواية الصوفية المولوية التي نُسجت من سيرة وسلوك ووجد وعشق وشعر مولانا جلال الدين الرومي طريقاً في الرواية التي تُترجم في فصولها ما تركه الرومي في قلوب العاشقين وسلوك المريدين وصفير قيثارة السامعين.. وسرّ القيثارة يُهدى لذويه.لقد نسج محمد حسين بزي في روايته على منوال روائيين آخرين جعلوا من حياة وفكر جلال الدين الرومي موضوعاً لأعمالهم. وكان أول الساردين ابنه سلطان ولد الذي كتب قصيدة سردية عن سيرة والده وأسّس طريقته المولوية على قواعد عشقه كما اشتهر من الروايات «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية أليف شفاق التي نظمت حياة الرومي في قواعد عشقه من بداية الطريق إلى الله الذي يحبنا ونحبه وفق رأيها، وأيضاً مسار الدوران حول المعشوق في أسفار العاشق ورقصه حتى وحدة العشق الوجودية.
وكتبت روايات أخرى مشابهة منها على سبيل المثال «بنت مولانا» للكاتبة مورد مفروي التي تتكرر حول سيرة كيميا التي نشأت في دارة مولانا وتزوجت من شمس التبريزي، ورواية «في حضرة جلال الدين الرومي» للكاتب إسحاق الشيخ يعقوب. وتتفق هذه الروايات بالجمع بين ما يشبه السيرة الذاتية لأصحابها وسيرة الرومي في ما يشير إلى علاقة الاستمرارية بين المرشد الصوفي والمريد.


يدخل هذا النمط من الروايات في مجال الأدب الصوفي والصوفية. تُفصح عن تجاربهم في الأصل إفصاحاً أدبياً روائياً أو شعرياً بمعنى أن النص الصوفي هو نص أدبي على الحقيقة؛ حتى أن النقد المعاصر يذهب إلى دراسة الشعرية في الفتوحات المكية لابن عربي، وقد عمد الصوفية إلى كتابة القصص الرمزي، مستفيدين من القصص القرآني كما كتبوا في أدب المعراج وفي أدب الأسفار.
يطرح هذا النوع من الإنتاج الأدبي الصوفي إشكالية العلاقة بين الأدب والفلسفة عامة والتصوف خاصة. في معنى الجواب على السؤال الآتي: هل يمكن الإفصاح عن نظرية فلسفية أو صوفية في نص أدبي روائي أو شعري؟ وهل يمكن طرح نظرية فلسفية مستخلصة من عمل أدبي؟
الجواب أن ذلك ممكن لأنه موجود متحقق في الإنتاج الأدبي والفلسفي على السواء، ولأن الأدب والفلسفة يتفقان في أداة الإفصاح وهي اللغة، وفي موضوعات عديدة مشتركة تتعلق بالوجود الإنسان في الخلق والحق والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، لكن السؤال الإشكالي الأساسي يقوم على قدرة الحفاظ على أدبية النص مع صوفيته وصوفية النص مع أدبيّته، بمعنى الحفاظ على الأصيل في هذه العلاقة. وعليه هل تدخل رواية «أيام مولانا» في مجال الفن الروائي وأسلوبه أو في الإنتاج النظري الصوفي وقواعده؟ وهل نجد في الكاتب أديباً أو متصوفاً؟ بسؤال أكثر تحديداً، هل نعتبر محمد حسين بزي صوفياً من الطريقة المولوية الذي يريد أن يشرح لنا أفكار الطريقة في الرواية، وهذا ما لمحت له في تقديمها د. دلال عباس في القول إن هذه الروايات شرحت أفكار الصوفيين وساهمت في نشرها، لكن ما هي المكانة الأدبية والفنية لهذه الروايات في مجال الأدب والفن الروائي؟
أذهب إلى ترجيح أنّ رواية «أيام مولانا» عمل روائي استطاع الحفاظ على أصوله الأدبية وقدم عرضاً مشوقاً لأفكار صوفية وفلسفية مكتسبة، وأن قصده لم يكن إنتاج هذه الأفكار ولكن كتابة الرواية، وعلى الآخرين أن يأخذوا منها ما هو محل تحصيلهم. ويتضح الأثر الفلسفي والصوفي المولوي من عنوان الرواية الصريح، إنه يبحث عن أيام مولانا وهو اللقب الذي أطلقه طلاب الرومي عليه وهو المحبب عند مريديه، ثم يقدم ضميمة مضافة «قواعد العشق الأربعون» مذكراً بعمل الكاتبة التركية كأنه يريد محاكاتها، ولكن يبقى على مسافة منها، كما يكشف النص أنها محاكاة عقلية للتصوف نفسه أو ما يسميه الشيخ الرئيس ابن سينا التصوف العقلي، لأن قصد محمد حسين بزي هو كتابة الرواية وليس عرض النظرية، رغم ذكره للفلاسفة الإشراقيين وللعرفاء الصوفيين.
تبدأ الرواية التي تُقسم إلى مقامات عدة، بذكر الشيخ المقتول شهاب الدين السهروردي في قصته الرمزية «الغربة الغربية». وإذا كانت البيوت تُدخل من أبوابها، فما هي المفاتيح التي تمكنّنا من النفاذ إلى منازل ومقامات رواية «أيام مولانا»؟

المفتاح الأول
كتابة الرواية الصوفية التي تُترجم حياة جلال الدين الرومي، مستندة إلى سيرته في مصادر عدة، وتعرض هذه السيرة في فصول تجعلها مقامات في منازل الطريق، والمقامة ما ثبت من أحوال، وتضع لها مختارات من شعر الرومي مرة ومن أدب مرشده شمس التبريزي ثانية، وتربط علة البحث في ما يشبه التعلق الذاتي حيث جعل اسم شمس ابنته على اسم شمس التبريزي. وفي التعقل الفلسفي الذي يظهر؛ كان شيخ الإشراق السهروردي قد قاد محمد حسين بزي من يده إلى جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وحمله إلى مصافحة أعلام التصوف من نجم الدين كبرى إلى محي الدين بن عربي. لكن ما هي صلة الوصل بين شيخ الإشراق وجلال الدين الرومي؟ هذا ما كنا نبحث عنه لأنه لا يبدو متحققاً في تاريخ التصوف للرجلين، لكنه متحقق في البناء الفلسفي والصوفي لكاتب الرواية. ولذلك، اكتفى أن يشير إليه في ذكر الغربة الغربية في مقامات استهلال الرواية قبل الوصول إلى ترجمة سيرة أيام مولانا في سردية صوفية صريحة. الفلسفة الإشراقية، والطريقة المولوية، والتعلق الذاتي والفكري وكتابة الرواية والسيرة والأخذ بالرموز الشهيرة في الأدب الصوفي من المقام إلى قصص القرآن والجزيرة الخضراء مكان إقامة المهدي من آل محمد في العرفان الشيعي، إلى هدهد سليمان وقميص يوسف وعشق زليخة وعصا موسى تشق البحر وما احتاجه من رموز الصوفية وأدبهم وسيرة أعلامهم ومواجيد شعرهم وشطحات وجدهم وعشقهم. حتى أنّنا حين نفتح باب أسرار الرواية، ندخل إلى منازل العشاق ومسارح مقاماتهم وخلواتهم، ونصغي إلى موسيقاهم ونرقص في محافل الوجد والطيران إلى فضاء المحبوب. في هذا المسرح الصوفي يُعيد محمد حسين بزي ترتيب مقاماته ويضع له ما يشاء من صور ولوحات ومن شخصيات عبرت في حركة الأيام والفصول، إنه إعادة كتابة تاريخ معنوي بطريقة صوفية ويشبه إعادة توزيع موسيقى لسمفونية رائعة تتجدد فيها آلات العزف وتوزيعها، ولكن تبقى محافظة على نوتة تأليفها الأصلية وهذا معروف في القصص الصوفي وحكايات العرفاء. وكذلك في أدب المعراج الصوفي تتعدد الكتابة حول تاريخ واحد وسيرة واحدة. ولذلك فإن في رواية «أيام مولانا» ما يشبه الجمع بين التاريخ الواقعي والمتخيل، لأنه جعل من الأيام الحقيقة لمولانا وهي سيرته التاريخية موضوع رواية تدخل فيها كل عناصر الفن الروائي. هذا من ناحية كتابة السيرة في الرواية. أما السرد الروائي، فإنه يمضي في طريقة القوم ويحافظ على سرديّته المستقاة من نصوص الأصحاب وعلى شعريته المتوفرة عند كل نص صوفي، ويكتفي أن يجعل كل ذلك في مقامات هو ترجمانها. وعليه فإن التاريخ الواقعي لأيام مولانا من بلخ إلى قونية وقبل صحبته مع شمس التبريزي إلى ما بعد غيابه عنه، تجتمع مع السيرة الروائية المتخيلة كأنها إعادة توزيع في الإفصاح. ولأن السيرة الواقعية مشبّعة بعناصر الإفصاح الصوفي، فإن سردية الرواية المتخيلة لا تضع بين النص الروائي وبين النص الصوفي المقتبس حجاباً، ولا تجعلها على طريقة الفلسفة الظواهرية معلقة بين قوسين أبويه، بل تُدرجها في وحدة متقنة البناء، وهذا يعطي للرواية قيمة فنية مضافة..

المفتاح الثاني
النص المنامي الذي يعتبر نصاً مرجعياً كاشفاً عن ذات الرائي من حيثيات معينة.. ولقد اختص يوسف النبي بتفسير الرؤيا، واشتغل أبقراط على أثرها النفسي على الجسد، وذهب إلى تفسير الأحلام ابن سيرين، فيما أقام سيغموند فرويد فلسفته في التحليل النفسي على تفسير الأحلام.
وفي أدب المعارج، يحصل المعراج في الحلم أثناء النوم، لذلك فإن ما روته العرّافة كان من حلم بركة. تلك علاقة صريحة في الرواية مع أدب الرؤيا التي تكشف عن حال نفس الرائي، ولها صلة بأثر أدب المعراج.

المفتاح الثالث
استوقفتني في الرواية مقامات وفصول ذات دلالات وإشارات وتنبيهات، أولها مقام العرافة المتصل بقراءة الغربة الغربية لشيخ الإشراق السهروردي، وهذه القصة الرمزية ذات التعليم الروحي تتم دراميتها في عالم المثال. ففي عالم المثال هذا يعاود الصوفي إدراك مأساة تاريخه الشخصي في خطيطة عالم غيبي، هو عالم أحداث الروح وفق تعبير هنري كوربان. ولأن العرافة التي قرأت الغربة الغربية هي الراوية، يصبح دورها في معرفة عودة الغريب إلى حماه، وهذا ما يبدو أن بركة قد تكفلته في سيرة جلال الدين. إذاً السر أبعد من أثر السهروردي على محمد حسين بزي ومن صلة السهروردي بـ «جلال الدين» بل في درامية السيرة التي على ما يبدو يُراد لأحداثها أن تجري في عالم المثال.
يطرح هذا النوع من الإنتاج إشكالية العلاقة بين الأدب والفلسفة


مقام الجلال وفيه حكاية ولادة جلال الدين وتحاكي ما روته الشيعة الإمامية عن ولادة المهدي. والمحاكاة هنا من صناعة الكاتب أو صناعة السيرة التاريخية. لا يهم لكنها محاكاة لافتة.
مقام الحب وفيه تعداد «قواعد الحب الأربعون» «مرحلة العقل»، وهي مقتبسة مما أفاده الترمذي عن جلال الدين، وتعتمد على ما كتبه سلطان ولد وديوان المثنوي المعنوي. يعني أنها مستفادة من مصادر متصلة توصل إليها الكاتب بالدراسة والبحث.
يعود الكاتب ويذكر «قواعد العشق الأربعون» في مقام مستقل هو مقام الأربعين، وعليه نحن أمام نصين مختلفَي القواعد: أيهما هو الأصيل وأيهما الاعتباري؟ القواعد العقلية أو القواعد القلبية؟ ويصح مقارنة مع ما ورد من قواعد في رواية الكاتبة التركية أليف شفاق ذائعة الصيت مفيد وممتع على السواء، وعليه تظهر إشكالية أصل نص القواعد، وهل يبنى العشق على قواعد نظرية الطرق الصوفية ولا إجماع عليها عند العرفاء؟ وهذه مسألة لا علاقة لها بالرواية. مسألة نظرية محضة تضعنا أمام الإشكالية الأولى في الأدب الصوفي وجدلية العلاقة بين الأدب والتصوف أو الفلسفة وأيهما يبقى في الإنتاج المتداخل هو الأصيل في معنى هل نستفيد من رواية «أيام مولانا» بصفتها فناً روائياً مكتمل الأوصاف؟ أو أننا نأخذ منها نظرية حول شعر جلال الدين وفلسفته الصوفية وطريقته المولوية؟ للقارئ أن يُحصّل على قدر الطاقة وحُسن المقام، وشتان بين وصف الحلاوة وتذوّقها! تلك هي مقامات سمفونية الترجمان.

* وزير العمل والزراعة سابقاً