الفرح يأتي من الجنوب: هكذا علّمنا التاريخ، وهكذا تقول لنا الجغرافيا، وهكذا يُبرق لنا الأمل إن لم يطلع النور من الشرق، وإن لم يسقط المطر من الشمال، وإن لم يحتشد بحرنا من الغرب إلا بالموت، وإن لم تقل السماء كلمتها بعد وقد كسفت وحوشُ الحديد شمسها والقمر. لكن محمود درويش حذَّرنا من قبل ألا نأمن الفرح، لأن خيانته قاسية. وإثر انتصار تشرين 1973، صرنا أكثر فهماً لتأنيبه النبيل: «علَّموك أن تحذر الفرح، لأن خيانته قاسية، من أين يأتيك فجأة؟ هل تكون ولادة جديدة؟ هكذا يجب أن تكون. لا بد من ولادة. هل يصقلنا الموت؟ لا بد أن يصقلنا الفرح. ستبدأ المقاومة. ستبدأ المقاومة. انتهى كل شيء. وتبدأ المقاومة. وإذا جاءك الفرح، مرة أخرى، فلا تذكر خيانته السابقة. ادخل الفرح، وانفجر!».نسينا خيانة الفرح، واستمرت المقاومة، ودخلنا الفرح وانفجرنا، وبعد تحرير الجنوب في أيار 2000، أكَّد لنا: أنه «لم يفطن العرب إلى ما فيهم من عطش إلى الفرح كما يفطنون الآن. لقد اتخذ الأمل مكان العورة بكثافة الحجاب وبسيولة الخطاب. لكنّ قطرة من أرض الندى كانت كافية لانفتاح الشهية العاطفية، وربما الفكرية، على فرح جماعي وحَّد فيها وعي الهزيمة القابلة لأن تنكسر، ووعي المقاومة القادرة على أن تنتصر». قال لنا إنه «ليس هناك نصر نهائي ولا هزيمة نهائية، فهذان المفهومان يتقنان لعبة التناوب والاحترام المتبادل، لكي يكمل السيد التاريخ حركته اللانهائية». لم تنضج «إسرائيل» بهزيمتها، ولم ننضج نحن بنصرنا، ولم يكمل السيد التاريخ إلا جملته القديمة أن «المسيح لا يأتي فقط بوصفه المخلِّص، بل بوصفه هازم المسيح الدجال. والمؤرخ الذي سيملك موهبة إذكاء جذوة الأمل في الماضي هو فقط ذلك الذي يكون راسخ الاقتناع بأنه حتى الموتى لن يكونوا بمأمن من العدو إذا انتصر. وهذا العدو لم يكفَّ عن الانتصار». دخلنا في الفرح وانفجرنا وفجَّرنا بعد أربعة أشهر انتفاضة الأقصى في أيلول 2000، ذُبحنا من الوريد إلى الوريد، ولم يتوقف تصفيق العالم الحر لنا: من مقلاع جالوت الصغير في مواجهة دبابة داوود الكبرى إلى صعود مسيحنا مرةً أخرى إلى الجلجلة حاملاً صليبه وعار العرب: «شهيداً، شهيداً، شهيداً».


دخلنا الفرح وانفجرنا في تموز 2006، وفي الكانونين 2008-2009، وفي تشرين 2012، وثانيةً في تموز 2014. دخلنا الفرح وانفجرنا في كل أشهر الله الشمسية والقمرية في 2015، 2016، 2017، 2018، 2019، 2020، 2021، 2022... وفي السابع من تشرين الأول 2023، دخل الفرح إلى قلوبنا وانفجر! وانفجر معه العالم باكياً على «السيوف الحديدية» التي تثخن في لحمنا وقد تدحرجت أقلامنا في رماد المحرقة. والآن، لم يعد حتى في وسع موسى النبي، وعجله الذهبي، ولوح وصاياه، وعصاه، وأفعاه، وفي معيته مترجمه هارون البليغ... أن يحمل العالم على فقه قوله إن قومه المؤتمرين «باسم رب الجنود» أكملوا مائة وعشرين عاماً في قطع الماء والهواء والغذاء والدواء عن هاجر الجارية وإسماعيل الذبيح.
أما غزة التي «لا تتقن الخطابة» وحنجرتها «مسام جلدها التي تتكلَّم عرقاً ودماً وحرائق»، فقد عادت لعادتها القديمة: «لا هو موت، ولا هو انتحار. ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة». وأما إسبارطة الجديدة، فقد حشدت لها امبراطوريات الحديد ما يزيد عن حاجتها لإبادة هنود فلسطين الحمر الذين لم يعد في وسعهم تكرار مقولة شهيدهم الأول: «أحبوا أعداءكم»! ليس في مقدور الشعر أن يوقف البربرية، بل إن «كتابة الشعر بعد غزة هي فعل بربري»، وليس في مقدور الشعر أن يمنع شمشون، الذي نما شَعره، بعدما أيقظه الوحش الصهيوني من سباته العميق، ومنحه ما يشاء من أدوات الموت: «سيوف حديدية» بدل فك الحمار، وقاذفات نار سماوية بدل ذيول ثعالب الأرض، وأذرعة دمار من البر والبحر بدل ذراعين من لحم وعظم... ليس الآن، لكنه الأمس. ليس تكراراً، لأن الكوابيس تتعاقب ولا تتشابه:
ليس لأحد أن يُلقي تبعة وحشية الجلاد على الضحية، وليس لمجرم حرب أن يُشرِكَ ذوي ضحيته في إثم قتلها. وليس لأحد أن يلوم الضحية لأنها أخطأت مغادرة الهدف الذي أصابته القذيفة. ليس لأحد أن ينسى ليغفر. ليس لأحد أن يغفر لينسى. ليس لمن لم يكن شهيداً إلا الشهادة، وليس لمن لم يكن جانياً إلا ملاحقة الجناة. وليس لأحد، أن يدين المقاومة، أو أن يحذّر من انتصارها وهو يرجوه، أو يبتذل ذاته، مهما بلغ رأسماله السياسي وعلا كعب وثنه، بالخشية من محاذير الانتصار «حين تستبدلُ أصولية صِنوَها».


ليس لأحد أن يُعْمِلَ ذائقة النخبة المحرَجة في مكان المقاومة وميقاتها وكيفيتها، إذ ليست المقاومة سلعة ثقافية بتمويل مشترك، بل هي الثقافة العصية على التسليع لأنها انحياز الجميل للأجمل: إنها انحياز السماء لأيدي الشهداء التي ترفض الامتثال.. إنها انحياز عيون المؤمنين لدرب بيت الله الذي هدموه. إنها انحياز اللاجئ لمكانه الأول. إنها انحياز المقهورين في السجون لنور الصباح. إنها انحياز الجوعى لصوت أمعائهم. إنها انحياز الشجرة لأمها الأرض التي فارقتها، وأمنا. إنها انحياز المعنى لقلب قائله وبوصلة الوصول.
ليست إعادة ما قيل بالأمس، اليوم، إلا لتوكيد على أن الدم العربي دم واحد، وأن الدم الفلسطيني دم واحد، وأن عدو الفلسطينيين والعرب والإنسانية عدو واحد: هو الاحتلال الصهيوني الذي لا يرعى في أحد إلّاً ولا ذمة، إنه الوحش الذي عضَّته النازية بالأمس فاكتسب سعارها وتوحَّش ليعضّ ضحيته الفلسطينية اليوم، وهو كل من تواطأ مع العدو سراً أو علانيةً. وليس في إعادة ما قيل بالأمس، اليوم، إلا للتوكيد على حق الفلسطينيين في المقاومة التي لا حدَّ لمديحها، ولا حدَّ للحض على ممارستها، ولا حدَّ لممارستها على كل الجبهات حتى وقف العدوان، ومحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، وإحقاق الحق الفلسطيني. ولا حدَّ للجريمة التي تصرخ حتى السماء في غزة: لا حدَّ لفاشية العدو، ولا حدَّ لانتقائية الضمير الإنساني، ولا حدَّ لظلم إمبراطورية الحديد الأميركية والبريطانية، لا حدَّ لسواد البياض الغربي، ولا حدَّ لوحشية قلعة النار «الإسرائيلية»، ولا حدَّ لتواطؤ لسان العرب الرسمي، ولا حدَّ لبكم لسان الفلسطينيين الرسمي... فلا ينبغي أن يكون ثمة من حدٍّ، إذاً، لدعم المقاومة وحمايتها والدفاع عن الحق في ممارستها حتى نتمكن من ممارسة الحياة.
فطوبى للشهداء،
وطوبى لغزة، وطوبى لفلسطين،
وطوبى للحياة، وطوبى للمقاومة،
وطوبى للفرح، رغم الخيانة، ندخله وننفجر.

* القدس، فلسطين المحتلة