الحرب تحرق كل شيء: المرئي من البشر والحجر والشجر، واللامرئي من اللغة والنظرية والحقيقة. ولإحراقهما، فإن قاعدة الاشتباك الوحيدة هي مقولة وزير الحرب الصهيوني أثناء إعلان الحرب على غزة: «إننا نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقاً لذلك». وفي مشهد فرجوي للتدليل على جدية «التصرف وفقاً لذلك» بمنع الماء والدواء والغذاء والهواء، يظهر جنديان صهيونيان في لقطة مسجلة وهما يغلقان محبس الماء على مليوني فلسطيني في غزة. هكذا هو الأمر وببساطة: «إنسانان» يقطعان الماء عن «مليوني حيوان» في مشهد عادي يبدو معه إلقاء هاجر وإسماعيل في الصحراء كناية باهتة في مخيالنا الأسطوري، ويعلنان عن بدء العمل بالتوقيت الخريفي للإنسانية. أما وقد غلب عنف الحديد سماحة الماء، ولم تعد «شجرة الحياة خضراء يانعة»، فلا بد من عنف مماثل على «رمادية النظرية» الغربية بذرِّ بقاياها المحترقة بأطنان المتفجرات الغربية في عيون أصحابها.

بعد حرب الكانونين (2008-2009) على غزة، فسَّر أحد «الفهود السود»، الباحث في علم الإنسان التطوُّري، العنف الوحشي للآلة العسكرية الصهيونية على نحو من شأنه توضيح ماهية «محاربة الحيوانات البشرية». فالحرب فعل يعود إلى خمسة ملايين سنة «حين بدأنا، كالشمبانزي، نقتل أعضاء المجموعات المجاورة بانتظام». والحرب فعل هجومي وصادم ووحشي وروتيني لم تتغير في تكتيكاتها رغم ما حققته «البشرية» من «تقدم»، اللهم في تعميم حروب الشمبانزي على بقية أعضاء النوع الحيوي الذين يشهدون على الحرب، ويشاركون فيها، ويتعلمون من المنتصرين اللغة وخداع الذات، ومن المهزومين الصمت ومعرفة الآخرين. لكن الشمبانزي لا يواجه مثل هذه المشكلة في خداع الذات ومعرفة الآخرين، ولا في المكوِّن الكلامي للحرب، إذ تُميت الحرب أنظمة التواصل اللغوي، وتبعث أنظمة الإشارة من موتها.
فقبيلة الشمبانزي «حين يكونون على وشك الذهاب إلى الحرب، لا ينظرون الواحد إلى الآخر، ولا يتواصلون قبل إرسال دوريات في المنطقة كمقدمة معروفة لمهاجمة الجيران. يقومون بذلك، إما تلقائياً، أو كردة فعل على صوت أو رائحة من منطقة مجاورة. وفي أي دورية على الحدود، يكون الذكور هادئين: يتوقفون، يشمشمون، يُصغون كمجموعة، لكنهم دائماً على حذر. أحياناً، يتوغلون في المناطق المجاورة، لكن الإشارة أو الوسيلة للتنسيق بينهم لا تزال مجهولة. لم يرَ أحد ما يشبه النقاش الجماعي بعد الهجوم، وبالتأكيد ما من حاجة إلى تبرير السلوك العدواني أمام مراقب خارجي. ولذا، فالمكوِّن الكلامي يبدو غائباً تماماً من البداية وحتى النهاية في حرب الشمبانزي. وبالمقارنة مع الشمبانزي، نتأمل الادعاءات المضادة التي تطلق بعد أي عدوان إسرائيلي على غزة، وهي أحد تطرُّفين: إما أن يكون الهجوم مبرراً تماماً بوصفه هجوماً على منظمة إرهابية، ويكون منتقدوه هم أنصار هتلر الجدد من كارهي اليهود، وإما أن يكون هجوماً إرهابياً إسرائيلياً على بقايا إنسانية من حصيلة التطهير العرقي الذي لم تقم إسرائيل إلا عليه!».
إن هذا التفسير المتحلل من أعباء «رمادية النظرية»، التي صارت بيضاء بكل السوء، هو أمر ضروري لسببين: الأول، فتح محبس «محاربة الحيوانات البشرية» بالاتجاه المعاكس. والآخر، إغلاق محبس النظرية الغربية ليس عن الحرب فقط، بل وعن «بني البشر» و«بني الحيوان». فالآلة العسكرية الصهيونية-الأطلسية، التي تدعمها آلة إعلامية غربية، أسست لها «آلة أنثروبولوجية» قضت خمس ملايين سنة في دراسة الشمبانزي لتنام مرتاحة الضمير بعد إبادة مئات الملايين من البشر. وفي أدبيات النظرية البيضاء القليلة الأدب والمتحجرة الروح، أنجزت هذه الآلة الأنثروبولوجية مهمتها في إيجاد الرابط المفقود بين «الحيوان» و«الإنسان» كما يقول أصحابها بكثير من اليقين، على مرحلتين: الأولى، عملت على أنسنة الحيوان، وحولته إلى «إنسان-قرد» قادر على رؤية «ذاته» ورؤية «أغياره» من الكفرة والعبيد الذين لم يصلوا بعد إلى مرتبة «الإنسان». وفي الثانية، عملت على حيونة الإنسان، وتحويله إلى «شمبانزي» قادر على شن الحروب على «أغياره» الذين تمكَّن من إسكاتهم، لا لأنهم غير قادرين على الكلام، بل لأنهم غير قادرين على التحدُّث بلغته هو، لغة الشمبانزي.
إن هذه الآلة التي تأكل الأخضر واليابس، الآلة التي يبدو أنه يديرها «الوحش التلمودي» الذي «خلقه الرب في آخر ثلاث ساعات من النهار ليلعب معه» لا تعترف بمأساة انتصارها. ففي كل مرة يحاول فيها الإنسان الملوَّن تقليم مخالب الحيوان الأبيض، يفطن الحيوان إلى أصله المتوحش، ويتذكَّر أن الآلة لم تغيّر في «طبيعته الأولى» إلا نظام اللغة الذي لا يكلُّ ولا يملُّ من استخدامه للإفلات من «طبيعته الثانية» والثأر منها. وعلى ما يبدو أن العبور الفلسطيني في السابع من تشرين الأول 2023، تمكَّن لا من تعرية الآلة العسكرية والإعلامية فقط، بل من تعرية الآلة النظرية التي عاد جنرالاتها إلى «الطبيعة الأولى»، والقبيلة الأولى في الكهف الغربي. ولم تغب شمس يوم العبور أيضاً حتى انبرى المنظِّرون والمنظِّرات، الأحياء منهم والأموات، للتصفيق للشمبانزي الذي لا يفقه من اللغات الحية إلا مقولة «بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار تقوم يهودا». ومع سقوط يهودا وأوهام قيامتها، وضَعت غزة بين قوسين غارقين بالدم والنار: «الإنسان» و«الحيوان» و«الغفران» و«النسيان» و«عقيدة الصدمة» و«الإنسان الحرام» و«أطر الحرب» و«الحياة العارية»... والمؤخرة العارية.
لم يقل أهل غزة لغزاتهم: «سرقت دموعنا يا ذئب: أتقتلني وتسرق جثتي وتبيعها! اخرج قليلاً من دمي حتى يراك الليل أكثر حلكةً. واخرج لكي نمشي إلى مائدة التفاوض، واضحين كما الحقيقة: قاتلاً يدلي بسكين، وقتلى يدلون بالأسماء». لم يفعل الفلسطينيون ذلك لأنهم خبروا كيف قتلت المفاوضات الحقيقة قبل مئة وعشرين عاماً على بدء الحرب، وخبروا كيف لم تهدهم محرقة النظرية إلا الرماد، ولم تترك القذائف من الأسماء إلا نسيانها.
لا يحتاج رماد النظرية الغربية إلى عدَّة نظرية مماثلة، بل إلى كف عفيَّة قادرة على ذرِّ الرماد. ولا تحتاج خارطة غزة إلى لغة إنكليزية عليا لتشرحها بل إلى كلام عربي مبين، «أضحك وأبكى»، وثلاثة فوضويين فقط يدير كل منهم الكرة الأرضية على وسطاه ساخراً من البداية والختام: يعلن أحمد لُبَّد من غزة بدء القيامة واقتراب الحساب وأن «الله أكبر، وستبقى فلسطين، وسيبقى الشعب الأقدر على المقتلة». ويعلن عبد قدورة من البداوي «مربوح هذا بيعنا مربوح، كم روح فينا تألمت كم روح؟ مسموح يطلع هالوقت مسموح، مسموح نبكي عالنصر وقت النصر. ونبكي على اللي استشهدوا وننوح». ويعلن مهند أبو غوش من حيفا هدنة مؤقتة مع البذاءة الثورية، ويتقمص شاعراً جنوبياً قرر ألا يصير منظِّراً. يواصل «الافتراضي» افتراضاته، ويغني لأوقات الظلام: يؤكد أننا «صامدون هنا... قرب هذا الدمار العظيم. وفي يدنا يلمع الرعب في يدنا. في القلب غصن الوفاء النضير. صامدون هنا... باتجاه الجدار الأخير». وقبل الجدار الأخير، يغني «الافتراضي» لهنود حمر تطايرت ألسنتهم بما عليها من حروف عربية تزغرد للانفجار، ونبتت مخالبهم، ونما الريش على رؤوسهم المعفَّرة بالدم في رحلة العودة إلى أمهم الأرض: «أجمل الأمهات التي عينها لا تنام، تظل تراقب نجماً يحوم على جثة في الظلام».
لا يكرر الافتراضي لازمة «منكم السيف ومنا دمنا»، بل يستحدث واحدة أخرى «منكم النظرية ومنا إصبعنا الوسطى». يكتب في اليوم السابع للحرب رده البليغ على الآلة البيضاء التي جعلت من غزة حديقة للبرابرة الذين لم يصونوا عهد العمومة مع «كيسوفيم». يكتب، وهو يسمع النقر على لوحات المفاتيح بالمخالب، لا بأطراف الأصابع، لتنشر الموت القادم من كهف القبيلة الغربية على امتداد غزة. لم يعد شمشون بحاجة إلى فك الحمار ليقتل الفلسطينيين، ولا إلى ذيول الثعالب ليحرقهم. فقد مكَّنته الآلة الأنثروبولوجية أن يصير هو الحمار والثعلب. مكَّنته من الخروج من الحيونة والعودة إليها في رفَّة عين تكفي لإرسال مستشفى كامل بمن فيه للبحث عن رأس المعمدان. حين تغوَّلت النظرية، وانهارت الجغرافيا بانهيار جدارن «الغلاف»، تجمَّع الكون في «كيسوفيم» التي صارت الحد الفاصل بين الشرق البربري والغرب الشمبانزي، والحد الفاصل بين الحقيقة البيضاء والباطل الملوَّن! جاءت بارجات الغرب لتأديب الشرق بآلتها العسكرية، وقررت إبادة الهنود الحمر الناطقين بالضاد بعد أن رفضوا بشرى الحضارة ووثقوا بالحصان أكثر من ثقتهم بالحداثة. جاءت الكاميرا لتقنع العالم أن «لا أطفال لدى البرابرة»، إذ على «الشعب الزائد» أن يكف عن المشاركة في تأويل لون الدم. يعلن «الافتراضي» عداءه للغة الفصحى ويقرر استخدام لغة الفطرة: «خمسة وسبعون عاماً ونحن نحاول التحدث بالإنكليزية بطلاقة، بعضنا حتى، حاول الاكتفاء بزراعة التفاح، والتحدث عن المقاومة الشعبية «الشرعية» (الشرعيَّة في منظار أعدائنا الشقر). جرائم حرب؟ [...] أبارتهايد؟ يا للسفه! علينا أن نتوقف عن محاولة التحدث بالإنكليزية، ستفضحنا اللكنة دائماً. علينا أن نعود نحن أيضاً إلى كهوفنا، وأن نربِّي ذقوننا وأظافرنا. فالنموذج الوحيد الإيجابي في هذا العالم هو نموذج الكهف الذي انتصر على قاعدة التنوير في تورا بورا».
في مساء الإثنين 16 تشرين الأول 2023، أطل الناطق العسكري للمقاومة «أبو عبيدة الملثم»، وخصص تصريحه لأسرى العدو الذي فعَّل «توجيه هانيبعل» في حربه على غزة بكل من فيها وما فيها. وقد أشار إلى أنه يجري التعامل مع الأسرى بما تمليه التعاليم الدينية والواجب الأخلاقي والإنساني «يأكلون مما نأكله، ويشربون مما نشربه، ويعيشون اليوم الظروف نفسها التي يعيشها عموم أبنائنا في غزة». يستعيد أبو عبيدة خطاب «عائلة الإنسان الكبرى» من دون نفاق أبيض: يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، يحيون كما نحيا، ويموتون كما نموت. ويعيد إلى الأذهان دعوة شاعر جنوبي آخر في «حالة حصار» للجنرال الذي ينقب عن دولة نائمة تحت أنقاض طروادة، ويقيس المسافة بين الوجود والعدم بمنظار دبابة، فيما نقيس المسافة بين أجسادنا والقذائف بالحاسة السادسة ونحن ننتصر:
«أيها الواقفون على العتبات ادخلوا،
واشربوا معنا القهوة العربية،
فقد تشعرون بأنكم بشر مثلنا.
أيها الواقفون على عتبات البيوت!
اخرجوا من صباحاتنا،
نطمئن إلى أننا
بشر مثلكم!»

* القدس، فلسطين المحتلة