إلى فلسطين فجرَ 7/10/2023
طاشَ الرِّجالُ على الخَريطةِ،
والدَّمُ الثَّوريُّ سالَ على الحُدودِ القِرمزيَّةِ،
والفدائيُّونَ جاسُوا في المُعسكرِ،
والمدينةُ حفَّها، في يومِ عُطلَتِها، النَّشيدُ.

«وحملت قلبي قنبلة» (1978) لحسيب الجاسم (ملصق في الذكرى 13 لاشتعال الثورة الفلسطينية عام 1965 ـ من «أرشيف ملصق فلسطين»)


وللمَدينةِ حزنُها: بحرٌ يموتُ،
مَساؤها: ختمٌ على الصَّلصَالِ بالظِّلِّ الطَّرِيِّ،
غِناؤها: حفلٌ لفاكهةِ العِناقِ،
مَسارُها: لو نجمة سقطتْ على كتفِ الحكايةِ،
والحكايةُ: طائرُ «الفينيقِ» والبلدُ العَنيدُ.

وللمدينةِ فِضَّةٌ وحشيَّةٌ لمعتْ وغابتْ في التِّلالِ.
وحيدةً تَرقى إلى جدَلِ الحياةِ،
وجُندُها مَالوا على أعتابِ أغنيةٍ وعادُوا عاشقينَ...
نساؤها مستلقياتٌ فوق نقْشٍ مِن هَوى «كنعانَ»،
جِئنَ، وبالعِنادِ جَدَلْنَ رقَّتهنَّ حَوْلي، بالعِنادِ،
ذبحْنَ فيَّ الشَّاعرَ المنفيَّ مِن حِضنِ الغَوايةِ،
وانتصرنَ على الخَيالِ.

أنا الوحيدُ المُبتلى بعُذوبةِ البلدِ الفقيدِ،
بلُقمةِ الصَّيَّادِ... بالأقدارِ،
بالغَيبِ البَعيدِ،
بمعدنٍ يهَبُ الرَّنينَ لكلِّ روحٍ مِن خَزَفْ...
تهوي على كفِّ الحديدِ!
أنا الوحيدُ المُبتلى بمَتاهتي،
ما كنتُ متّكئاً على لحمِ القصيدةِ يومَ باغتَني العواءُ؛
وشُقَّ لي غيمٌ، وآيةُ...
واندفعتُ من الجِدارِ إلى الجِدارِ:
كألفِ أُغنيةٍ مِن العهْدِ الجديدِ.

وقلتُ:
يا ربَّ الفِدائيِّ الذي داسَ المَدى؛
كم مِن فلسطين لأنجوَ؟
مَن سيكتُبُ بالدِّماءِ على الجثامينِ الصَّغيرةِ: «لا تُصالحْ»!
مَن يشيِّعُ صوبَ مَن مَاتوا الغمامَةْ؟
قلتُ هذا (مَوطني)،
أبكي عليهِ وأشتريهِ،
أصبُّ مِن دَمعي على سِجنيْهِ مَوَّالاً عِراقيّاً حَزينَ المُشْتهى:
الآنَ فلتكُنِ القِيامةْ!
ثُمَّ رجْعٌ عادَ في ثوبِ الصَّدى:
أنا ألفُ أغنيةٍ مِن العهْدِ الجديدِ...
الآنَ فلتكُنِ القِيامةْ!
فالمَرايا أولمتْ للمُبصرينَ جُنونَها،
والَّليلُ أودَعَ آخرَ الأسرارِ عنديَ، وانْطوى:
البُندقيَّةَ والحمامةْ!

باطشينَ مجرِّدِينَ دموعَهمْ ودروعَهمْ؛
جاؤوا، معَ الفجرِ، الكُماةُ،
النُّورُ شاغبَني:
انتَفِضْ!

هذي البلادُ تفوحُ مِن عِطرِ البَنادِقِ،
تِينُها، زَيتونُها، بالمنِّ والسَّلْوى تفوحُ،
بألفِ «لاءٍ» ضَمَّها لحنُ انكسارِكَ،
وانكِساري؛
فانتَفِضْ!
هذِي بلادُكَ يا فَتى...
ما أذعنتْ يوماً ولا «أكلَتْ بِثدييْها» وماتتْ كالجَواري؛
فانتَفِضْ!

واصنعْ لمائكَ جذوةً مِن جمرِ نارِي...
وانتَفِضْ!

ثورٌ سماويٌّ سيطفو فوقَ قُرصِ الشَّمسِ مُؤتلقاً،
يُغنِّي،
-نصفُهُ البَشَريُّ شاعِرُ، نصفُهُ الثَّاني فِدائيٌّ-
سيَجهشُ بالبُطولةِ دامِعاً:
عادُوا إلى الحربِ الأخيرةِ مثلَ أوَّلِ مرَّةٍ،
وتحلَّقوا كالجِنِّ حولَ النَّارِ؛
لم يَأووا إلى زَوجاتِهم،
لم يَحفلوا ببنيِّهمْ،
وبناتِهم...
بل عاقَروا أحزانَهم، أسلافَهم، حسَرَاتِهم، والمستحيلَ،
وعلَّقوا الأنخابَ فجراً فوقَ خاصرةِ الصَّباحِ كجُثَّةِ المَشنُوقِ...
مِن سَفَرٍ طويلٍ -قادمونَ- لينتهوا عندَ المساءِ مُؤزَّرينَ؛
فأيُّ حَربٍ تلكَ خاضُوها؟
لماذا؟
كيفَ عادُوا كاملينَ: يقودُهم نبأُ الحقيقةِ،
حالمينَ: وجوهُهم بِيضٌ،
أياديهم طِوالٌ: إذْ تَطولُ ولا تُطالُ،
نفوسُهم فاضتْ على المَعنى وضجُّوا بالمَجازِ الشَّاعريِّ:
الآنَ قدْ طاشَ الرِّجالُ على الخَريطةِ،
والدَّمُ الثَّوريُّ سالَ على الحُدودِ القِرمزيَّةِ،
والفدائيُّونَ جاسُوا في المُعسكرِ،
والمدينةُ حفَّها، في يومِ عُطلَتِها، النَّشيدُ!

* شاعر عراقي/ الكويت