«هي معركة بين أبناء النور وأبناء الظلام، صراع بين الإنسانية والهمجية». هكذا عبّر رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عن حربه الأخيرة على قطاع غزة عبر موقع X. ما يجري في غزة يندرج ضمن «منطق الإزالة»، وهذا عنصر أساسي في المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية مثل كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يهدف إلى الإبادة الجماعية لسكان غزة، وطردهم من الأرض. لذا يستخدم مجموعة كبيرة من الإستراتيجيات لتدمير وتجزئة وإضعاف المجتمع عبر منع كلّ سبل الحياة مِن بنية تحتية وطعام ومياه وأدوية. إنهم يهدفون إلى ضمان أنّ الجيل القادم لن يقاوم السلب والقمع، ويتخلى عن المطالبة بحقوقه. لذا يتزايد تركز القوى الإسرائيلية الاستعمارية على قتل الأطفال لتتخلص مِن «أبناء الظلام». تقصف إسرائيل سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، وتضرب عمداً المدارس وسيارات الإسعاف والمباني السكنية، وتسوّي أحياء بأكملها بالأرض بالتزامن مع حملة تضامن غربي مع تل أبيب في مقابل حظر الاحتجاجات المناصرة لحقوق الفلسطينيين. التقسيم الذي يظهر في تغريدة نتنياهو بين عالمين، هو بالفعل جوهر ما وصفه فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض» حيث يورد أنّ «العالم الاستعماري هو عالم مقسم إلى أجزاء». حرص الاحتلال الإسرائيلي دوماً على تقسيم فلسطين إلى قطع صغيرة مُحاصرة تشترك في ما بينها في القهر والعنف الاستعماري وممارسة الفصل العنصري.

لكنّ عملية وصم قطاع غزة ونزع الطابع الإنساني عنها لها تاريخ طويل. بعد الانتفاضة الأولى (1987-1993)، ظهرت عبارة «اذهب إلى غزة» بالعبريّة كمرادف لـ «اذهب إلى الجحيم» في الإنكليزية. أرنون صوفر، عالم الديموغرافيا في «جامعة حيفا»، ومهندس خطة أرييل شارون لسحب القوات الإسرائيلية من غزة، ومحاصرة القطاع وعزله عن العالم الخارجي، قال يومها «عندما يعيش 2.5 مليون شخص في قطاع غزة المغلق، ستكون هناك كارثة إنسانية، هؤلاء الناس سوف يصبحون حيوانات أكثر مما هم عليه اليوم، وبمساعدة الإسلام الأصولي المجنون، سيكون الضغط على الحدود مروعاً. ستكون حرباً فظيعة. لذا، إذا أردنا البقاء على قيد الحياة، علينا أن نقتل ونقتل ونقتل طوال اليوم وكل يوم». لم تتطور اللغة العنصرية من عالم الديموغرافيا عام 2004 إلى مجلس الوزراء الإسرائيلي عام 2023، إذ الفلسطينيون يصوَّرون دوماً على أنهم «حيوانات».
ينعم النظام الحالي لنتنياهو وحلفائه اليمينيين المتطرفين أمثال إيتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش اللذين يعارضان فكرة الدولة الفلسطينية، ويتوليان الحقائب الرئيسية المالية والأمن القومي، بالدعم المُطلق الذي منحته لهم الولايات المتحدة. ومنذ أن وصلوا إلى السلطة، لم يتركوا فرصة أو حدثاً لاستهداف الفلسطينيين إلا واستغلوه. وقد أعلن بن غفير في اقتحاماته المتكررة للمسجد الأقصى أن حرية عائلته في التنقل في «أنحاء يهودا والسامرة» (المصطلح التوراتي للأراضي المحتلة) أهم من حرية حركة العرب. مع ذلك، تجري الآن محاولة منسقة لإظهار أن العنف كان دائماً الوسيلة المفضلة للمقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. لقد دُمجت هذه الرواية بشكل مكثف في القضية التي تقول «الإسلام وأتباعه إرهابيون». علماً أنّ الفلسطينيين الذين يُوصفون بأنهم «حيوانات» قد لجأوا إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وكان هذا نضالاً سلمياً أقرب إلى أساليب غاندي للمقاومة، ولكنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي جرّما حركة المقاطعة عبر أوروبا وأميركا الشمالية، تحت دعوى أنّ مقاطعة إسرائيل هي «معاداة للسامية» من دون النظر إلى أن حياة الفلسطينيين ما هي إلا جحيم منذ حصار غزة عام 2007، إذ يعاني أربعة من كل خمسة أطفال في القطاع من الاكتئاب والحزن والصدمة. وقد فكر أكثر من نصفهم في الانتحار، وثلاثة من كل خمسة في إيذاء أنفسهم.
يستخدم قادة الاحتلال الإسرائيلي اللغة العنصرية لتبرير «العقاب الجماعي» لسكان غزة، ولاستباق أي انتقاد وإدانة لعمليات القتل للمدنيين، بالقول إنّ حماس «تختبئ خلف المدنيين»، و«الفلسطينيون حيوانات»، و«القانون أمام الفوضى». علماً أنّ لدى جميع الشعوب المُستعمَرة، يقاوم الفلسطينيون في منطقة محاصرة براً وجواً وبحراً، وهي الأكثر كثافةً سكانيةً في العالم، وإسرائيل والغرب يعرفان ذلك ولكن لا أحد يهتم.
إن مقاومة الفلسطينيين هي التعبير المركّز عن كل المظالم التي ارتُكبت بحقهم. ولكن لن يكون لدى نتنياهو وحلفائه الفاشيين الآن أي وازع أو تردد في التوقيع على إبادة الفلسطينيين. المؤسف أكثر أنّ الدول المؤثرة في العالم قرّرت الوقوف إلى جانب إسرائيل. وبالنسبة إليهم، بدا الهجوم الفوري على إسرائيل بمثابة إشكالية «غير إنسانية» و«إرهابية». إن الظلم والاحتلال اللذين يعيشانه الفلسطينيون منذ أكثر من سبعة عقود، لا يعني لهم شيئاً. لدى العالم الليبرالي مجموعة من الضحايا «اللائقين» و«غير اللائقين». إن معاناة الأوكرانيين مسألة تثير قلقاً عالمياً لأنهم «عصريون»، لكن الفلسطينيين لا تنطبق عليهم هذه الشروط، لذا فهم خارج قائمة التضامن والدعم.