(1)

القنَّاص السماويُّ
له قوس من الآسِ، وكنانة مليئة بالأفاعيْ
اللواتي ابتلعن عصيَّ أنبيائهِ، وأخبار أعدائهمْ.
عنده سلَّة أرواحٍ أكثر اتساعاً من الأرضِ، وأضيق من قبضتهِ،
التي لا تعرف الارتخاءْ. ولديه متَّسع من الوقت لاختيار الطرائدِ، في حقول الرعاةِ،
وحرَّاسها، إذ لا بشارة، في الصيد، إلا الهدفْ. والفتى، الذي ظنَّ أن الغيوم صالحة للتخفِّي
عن الغيب، كان حاضر الذهنِ، عينه بئر ضوءٍ، خطوه ثابتٌ، لا يكرُّ، ولا يفرُّ،
ولا يبارز خصومه الغائبينَ… لكنَّه لم يكن من سلالة الخالدينَ،
فلا كعبه ابتلَّ في النهر، ولا قلبهُ، لينجو...
من لدغة السهم، واللومْ.
(2)

«هل يشاهد الله أخبار الحربِ؟»
تسأل طفلة صاحبي والدَها، فيحاول الشرحَ:
«يد الله فوق أيديهمْ». لكنَّها، والضمائر تربك التأويل، تَغضبُ:
«أيديهمُ؟ ونحنُ؟ مَنْ لنا؟» والإجابةُ، عند الغريبِ، حاضرةٌ، مثل سارية بلا رايةٍ:
«يدُ الله في العالم-يدُ الأم في جوف ديك ذبيحٍ مساءَ سبتْ. والله قد يرى ما لا ترى الأمُّ،
فشُبَّاكه واسعٌ وشِباكهُ، والبحر ضيِّق كي يمرَّ أبناؤه إلى ميعادهم سالمينْ.

هاني زغرب ــ «دروس في الطيران 2» (مواد مختلفة على كانفاس ــــ 73 × 54 سنتم ـــ 2009)


والشاعر الآن شاخت أوجاعهُ، وآلامهُ خلَّفتْ جيلين يشبهانهِ، شيَّدت بيوتاً،
في البعيدِ، بيضاءَ. والصديقةُ ألقَتْ الـحُب على رصيف ليلها كدرَّاجة في الندىْ.
والصغار يلوِّنون أذان الحياة والقدس في شارعِ الأنبياء بالطباشيرْ».
يد الله تحرس الثغور، والبنادق، وعصافيرَنا الواجلات من القذائفِ،
ودجاجات أعدائنا الآمنات في الملاجئِ، واكتمال القمرْ.
(3)

على غفلة من الربِّ،
ربِّ الجنودِ، والشاطئ الفرنسيُّ عامر بالجميلاتْ،
كان أعداؤنا يكدِّسون البنادقَ، وما تشتهيْ «أرجوحة البحر» من ذخائر الموت في جوفها،
وعلى الشاطئ العربي، الذي غادرته الجميلات، كانت في الانتظار قبائل الله، التي اختارها، وساداتُها:
مَن شقَّ البحرَ، ومَن أوقفَ الشمسَ، ومَنْ ألانَ الحديدَ… وغيرهم من رفاق السلاحِ، وأعدائه، الغانمين-الغارمينْ
كانوا، حيث كانوا جميعاً، يعدُّون مخرز النصر كي يخيطوا البلادَ، وكنَّا، حيث كنَّا فرادى، نُعَدِّلُ هدنة القهرِ،
التي سوف تحمي البلاد بسيف المغولْ. لكنَّهم، والقلوب إلى القدسِ تعلو، اتفقوا على ظلمة اللجِّ،
ووحشة الريح، واختلفوا على الرُّبانْ: الإخوة لوَّحوا بالبيارق البيضِ، والأعداءُ لوَّحوا بالبنادق السودِ...
والإخوةُ-الأعداءُ ماتوا بين خطِّ البياض وخطِّ السوادِ، و«أرجوحة البحر»
غاصتْ إلى القاعِ، بين يافا وغزة، كي يحلَّ الظلامْ.
(4)

الزوجة، مبتورة الذراعينِ،
تكمل جلي الصحون بفمها المحضِ، وتعيِّر الزوجَ،
العائد للتوِّ من الحقل: «كيف يُعيْن الحارس الشاب، القادم من القوقازِ،
مبتور اليدِ، زوجته وكلتا يديه يمين!» إنه يزهو ببدلته العسكرية المثقلة بالأوسمةْ،
ويزرع الصبر، ساخراً، في أعقاب القذائف التي لم تنفجرْ… حين شبَّت الثَّورة، لم يغثه الفرنسيُّون ولا الإنجليزُ،
إذ في أعالي الجليلِ، لا غوث إلا لمن يمشي على الماءِ، أو يجعل الماء خمراً، أو يكادْ. فرصاصات العامليِّين،
والبدو، لم تمهل القوقازيَّ ليحظى بالمزيد من النياشينْ. حارس «تلِّ الحياةِ» يصارع الموتَ،
يغمز قناة الشاعر المستريحِ، أنْ: «لا شيءْ... جميلٌ هو الموتُ في سبيل البلادْ»!
الحارس الشابُّ، حينها، بلا يمنى تسعف يسراهُ، يندب الحظَّ،
ويلعن أمَّ الجنودِ. والآنَ، هو ثالث الثمانيةِ، على النُّصبْ:
أسد من البازلت باسطٌ ذراعيه بالجليلْ.
(5)

أُحبُّ أدوارهمْ،
لكنَّهم يكرهوننيْ. ولو كنتُ غيريْ،
لما كنتُ منهمْ. فهم يسخرون من القتلِ، ويزرعون الضحايا،
في غابة الآسِ، كي تزهر المشرحةْ. يا لملهاتنا إن أَطلق التاريخ ضحكتهُ، يا لمأساتهم إن عَبَسْ.
مَنْ همُ دوننا، مَنْ نحنُ إلا مسامير الصليب والخشبْ؟ لو كنتُ ربَّاً، لضاعفتُ، على القاتلين باسميَ،
الضريبةَ، وألزمتهم بالتكاليف كاملةً: الكفن، والتابوت، والجنازة، والقبر، والشاهدة، والدمعة الثاكلةْ...
ولو كنتُ «رَايْشْ»، لعدَّلتُ قولتي ولم يتَّهمني أحد بكرههم ولا حب نفسيْ:
«حينَ يمثِّلُ اليهودُ أدوارَنا، ينتهي القتلُ في الأرضِ، ولا يغيِّرون ملامحهمْ،
في المسرحية، ولا ملامحَنا». انتبه فـ «اليهودُ قادمونَ»،
يا صاحبي… والسلامْ!
(6)

في مشفى العدوِّ،
يبتسمُ الكلُّ للكلْ: يبتسمُ الأطباءُ للمرضىْ،
والممرضاتُ للأطباءِ والمرضىْ، والموظَّفونَ للأطباءِ والممرضاتِ والمرضىْ،
وذوو المرضى للأطباءِ، والممرضاتِ، والموظَّفينِ، وعمَّالِ النَّظافةِ، وسائقيْ سيَّاراتِ الإسعافِ،
والسَّابلةْ… علَّ ابتسامَتهم تشُدُّ أزرَ جريحهم، فيطولُ عمرُهْ! أما ملاكُ الموتِ، فعابسٌ، لا يبتسمْ.
فقد رأيتُهُ، عندَّ الظَّهيرةِ، مرَّةً، بين مدخلِ الطوارئ ومبنى الأورامِ، شارد الذِّهنِ،
ومن خلفهِ، سمعتُ أنَّاتِ جرحى تتسلَّلُ من أسفلِ البابِ،
بابِ العيادةِ، الذي تعلوه لافتةُ: «عيادةِ الألمْ»
«مِيربآت كِئيف»، باللُّغةِ العدوِّ …
في مشفى العدوْ.
(7)

أنا العاقر الفردُ،
وأبنائي الغارمون في الغيبِ،
لا يسمعون ولا يضحكونَ، لكنَّهم يبكونَ… كلَّما
ذكَّرهم غريبٌ بالنبيِّ وأبنائهِ… ثلاثةً، لا اثنينِ، كانوا:
«الله يسمعُ-يشماعْ»، «الله يضحكُ-يتسحاقْ»، «الله يبكي-يِبْكَيْهْ».
الثالثُ، الأحبُّ، الضئيلُ، لم يسمع به أحدٌ. بِضعةُ الربِّ للعبد على جبل الـمُرِيَّا.
إسماعيلُ، هاجرُ-الأمُّ خلَّصتهْ. إسحاقُ، الملاكُ-النَّبيلُ افتداهْ. «يِبْكَيْهْ»، لا خلاصَ ولا فِداءَ، لكنَّهُ
كانَ طفلاً بريئاً، ينادونَهُ، فيَحزنُ الرَّبُّ. إسماعيلُ لم يُسْمِعْ الرَّبَّ. اسحقُ لم يُضحكهُ».
… لإبراهيمَ أبناؤه، وللرَّبِّ أسماؤُهُ، وللسَّماءِ حكايةُ الأرض عنها:
اللهُ يسمعُ، اللهُ يضحكُ، اللهُ يبكىْ.

* القدس، فلسطين المحتلة