الحكاية الأولى: منذ نعومة أظافري وأنا أرتاد مدارس فلسطينية تابعة لوكالة الأونروا، من مدرسة طولكرم الابتدائية، إلى مدرسة اليُبنة، ثم متوسطة جالود وصولاً إلى ثانوية الجليل. في المدارس الأربع هذه، كنتُ محاطة بالفلسطينيين من أبناء مخيمات بيروت (برج البراجنة، شاتيلا، ومار إلياس) وبعض ممن كانوا يقطنون في الأحياء المجاورة. كلّ ما في المدرسة كان فلسطينياً بالكامل: المعلمات، المديرة، الناظرة، بائعة المناقيش والكولا في دكان المدرسة، سائق الباص، حتى إنّ الاحتفالات المدرسية كانت وطنية والحطّة الفلسطينية حاضرة بصورة بديهية. كل ذلك تبدّل لحظة انتقلتُ إلى مدرسة لبنانية رسمية ليس فيها شيء فلسطيني: النشيد الوطني قبل بدء الحصص الدراسية، صورة الرئيس في مكتب المديرة، مجلة الحائط بلا محمود درويش وغسان كنفاني، واللهجة مختلفة جداً عن لهجتي. في يومي الأول، علمتُ أنّني سأكون خارج منطقة الأمان التي اعتدتها في مدرستي السابقة، فوجدت نفسي أضع الحطة الفلسطينية على كتفيّ وأترك طرفيها مسدلين إلى جانبيّ. كنتُ أرى فيها أماناً يبقيني فلسطينية خارج منطقتي. بسذاجة تخيّلتُ نفسي سفيرة المخيم في المدرسة اللبنانية ودخلت إلى الباحة الأمامية متبسّمة بتوتّر. لم تفرح الناظرة التي كنت قد قابلتها قبل بدء العام الدراسي لمظهري، رمقتني من بعيد. وحين اقتربت أشارت إلى حطتي وخاطبتني بنبرة شعرتها متعالية وغير مرحّبة «شو هيدي؟
لوحة للتشكيلي الفلسطيني منذر جوابرة

ممنوع تلبسيها بالمدرسة، آخر النهار بتاخديها من مكتبي وما بترجعي بتفوتيها على المدرسة، ممنوع الرموز السياسية هون». يومها حبست دموعي طوال الحصص حتى انتهى الدوام وعدت إلى البيت. دخلتُ إلى الدار غاضبة ورميت حقيبتي والحطة على الأرض، فوبختني جدتي. وحين سردت لها ما حدث معي، مسحت دموعي وشرحت لي أمرين هامّين بقيا يرافقاني بعد وفاتها: أنا مخطئة والناظرة على حق، فهذه مدرسة لبنانية ويحب عليّ الاندماج فيها ومن الخطأ مقاومة النشيد اللبناني. لكن جدتي نصرتني حين قالت لي إنّ الناظرة مخطئة في فهمها ومعرفتها للحطة، فهي ليست رمزاً سياسياً، بل هي رمز ثقافي وجزء من تراثنا وهويتنا الفلسطينية. حثّتني جدتي أن أصحّح للناظرة تلك المعلومة وأخبرها عن استعمالاتها الوظيفية اليومية لتفهم سبب ارتدائي للحطة.
الحكاية الثانية: ظهرت الجمعيات غير الحكومية في المخيمات منذ تسعينيات القرن الماضي ونشطت بشدة في العقدين الماضيين، فكانت أختي تتردّد على إحداها للعمل التطوعي. في أحد الأيام، طرحوا في الجمعية فكرة تسجيل فيلم عن الحياة في المخيم مع مخرج سويدي الجنسية، وكان على أختي أن تتحدث مع الفريق خلال التصوير باللغة الإنكليزية. أذكر أنها كانت سعيدة جداً لمشاركتها في شيء يشبه ما كنا نراه على شاشة التلفزيون وفي برامج قناة «ديزني». جاءت صباح اليوم التالي مستضيفة معها المخرج ذا الحطة الزهرية الفاقعة وبعضاً من طاقم العمل إلى دار جدي حيدر الذي حين رآهم قبض على عكازه الخشبي الصلب ورفعها عالياً يهرول وراء الضيوف ويشتمهم: «ينعن أبوكو ولاد كلب، انقلعوا من داري، جايبيتلي يهود يا «مالِيتْ الجَدَرَة!». يومها لم نفهم نحن الأحفاد غضب جدي وطريقة تعامله، وشعرَت أختي بالإحراج الشديد منهم وبكت كثيراً في المنزل معتقدة أنّ جدي قضى على مستقبلها بفعلته تلك. أما بالنسبة إلى جدي فقد أغضبه شيئان: الحوار الذي سمعه بالإنكليزية فذكّره بالاستعمار البريطاني لفلسطين، والحطة الملوّنة «المزيّفة» التي لا توحي بالرجولة، فهو كان يتسلل بين عام النكبة وبداية الخمسينيات إلى فلسطين وينقل أمانات من الداخل إلى المخيم في لبنان.
الحكاية الثالثة: في الجامعة الأميركية في بيروت قبل ثلاث سنوات، كنتُ وزملائي في احتفال التخرج الذي لم يحضره الأهل ولا الأصدقاء بسبب جائحة كورونا، بل اقتصر على الطلاب وبعض الأساتذة وعدد من المنظّمين. يومها كنا نحاول التعرف إلى بعضنا بوجود اللثام على وجه كل منا. كانت تقف إلى جانبي «إسثر» زميلة من أوغاندا لم نتشارك حضور أي صف دراسي، لكن صديقة مشتركة عرّفتني إليها ذات مرة. لفتني أنّها كانت ترتدي بلوزة مصنوعة من الحطة الفلسطينية البيضاء والسوداء، وعليها بعض التطريزات الفلسطينية. ابتسمت لها وأبديت إعجابي بثيابها وسألتها عن سبب اختيارها للحطة. قالت إنّها اشترتها من متجر على رصيف شارع الحمراء، وأنها لا تعرف أن اسمها «حطة» وأنّها في الأصل «فلسطينية»، لكنّها لبستها لأنها «رمز للتحرّر والنضال».
هذه الحكايات الثلاث أسهمت في تشكّل وعيي ومعرفتي بالحطة الفلسطينية، وتاريخها ورمزيتها وسبب وجودها في كل بيت فلسطيني، واستعمالاتها الوظيفية واليومية قبل أن تصبح رمزاً للثورة. تشيع تسميتها بالـ«كوفية»، لكنها فلسطينياً يُشار إليها بالـ«حطة» لأن تسمية «الكوفية» جاءت من الكوفة في العراق بينما الحطة جاءت من الفعل المرافق للاستعمال: «حطّ» أي وضع الشيء أو استقر. وبالفعل إنّ الحطة الفلسطينية التي تُعد اليوم رمزاً لمقاومة الاستعمار والنضال في وجه الظلم والكفاح للتحرر من الاحتلال، لم تولد لأجل هذا السبب بالتحديد. صحيح أنها اشتهرت منذ عام 1936 في الثورة الفلسطينية الكبرى ضد مخطّط تقسيم فلسطين وسياسات الانتداب البريطاني المجحفة بحق الفلسطينيين، إذ اتفق المقاومون والفدائيون على التخلّي عن الطربوش العثماني وتوحيد الرمز بينهم. اختاروا وضع الحطة على رؤوسهم ولفّها على وجوههم حتى لا تميّزهم الشرطة البريطانية ويصعب عليها تحديد هوية الثائر الذي لا يبين من وجهه سوى عينيه. لكن لماذا اختاروا الحطة على وجه التحديد؟
كانت الحطة جزءاً من لباس الفلاح الفلسطيني، فقطعة القماش البيضاء المصنوعة من القطن التي يبلغ حجمها متراً مربعاً وعليها نقوش/ تطريزات باللون الأسود أو الأحمر، كانت ترافق الفلاح يومياً ولا يخرج من بيته إلا والحطة معه. هي جزء من تراثه لما لها من استخدامات وظيفية يومية: يضعها الفلاح على رأسه وهو يعمل في زراعة أرضه وسقايتها حتى تحميه من الشمس. وعند المغيب تنخفض درجات الحرارة، فيقوم الفلاح بلفّ ظهره وبطنه فيها حتى لا يتأذّى من النسيم البارد. أما وقت الاستراحة وتناول الغداء في ظلّ إحدى الأشجار، فكان الفلاح يفرد الحطة على الأرض ويستعملها كحصيرة يجلس عليها أو تجلس عليها زوجته التي كانت ترافقه في حصد الزيتون والثمار وقت نضوجها. كانت الحطة تستعمل أيضاً كـ«بقجة» أي ما يشبه الحقيبة بحيث توضع الملابس أو الأغراض التي يريد الفلاح حملها في وسط الحطة المفرودة على وسعها، ثم تربط ربطتين: طرفا اليمين واليسار يربطان معاً، ثم ربطة أخرى تجمع الطرفين المتبقيين الأعلى والأسفل. كما جاء استخدامها كحزام عند طيّها وربطها على الخصر، وخصوصاً لتثبيت أدوات (أو سلاح) عليها، ويرتديها بعض الثوار بربط طرفيها المسدلَين إلى الخلف، عند منتصف الظهر لتشدّ الكتفين وتبقي الظهر جالساً جاهزاً للمعركة.
في الأصل، جاءت الحطة بلونٍ أحادي أبيض، لكنها مع الوقت اكتسبت نقوشاً تعد كلغة تواصل مثلما هي حال الثوب الفلسطيني المطرّز، إذ تدل كل تطريزة وشكلها ولونها على الحالة الاجتماعية والطبقية للمرأة والأسرة التي تنتمي إليها، كما ترمز إلى المنطقة الجغرافية التي تأتي منها، فالـ«قطبة» أو «الغرزة» الفلاحية هي تطريزة تنتمي إلى سكان القرى بينما أهل المدن لهم تطريزات مختلفة. تتميّز الحطة الفلسطينية بثلاث نقشات تزيّن القماش القطني: المساحة الأكبر في الوسط تشغلها شكل شبكة، وترمز إلى طبيعة جغرافية المنطقة أي إلى المدن والقرى الساحلية التي عمل سكانها في البحر والصيد واعتمدوا على المأكولات البحرية في مطبخهم مثل قرية الزيب شمال مدينة عكا. أما النقوش الصغيرة المتماوجة التي تحيط بالشبكة، فهي ترمز إلى أوراق الزيتون المعمّرة لمئات السنين، فيتباهى الفلسطيني لدى الحديث عن كونه صاحب الأرض بقوله إنّ أصغر شجرة زيتون هي أكثر قدماً من دولة الاحتلال الصهيوني. تشتهر أرض فلسطين بالزيتون، ويعد مكوناً هاماً في المطبخ الفلسطيني وأصل الطبق الشهير «المسخّن» يعتمد بالأساس على غمس أرغفة الخبز العربي السميك بزيت الزيتون ثم إضافة المكونات الأخرى. والزيتون شجرة مباركة في القرآن، يتعامل معها الفلسطينيون خارج معتقداتهم الدينية كذلك. فقد ورثت الجدات الفلسطينيات في الشتات -بعد تهجيرهن من أراضيهن في النكبة- استعمالات زيت الزيتون في حالات كثيرة لا تنحصر بالطبخ. يعد هذا الزيت علاجاً لكثير من الأوجاع والعوارض المرضية، يُدهن على الكتفين، الرقبة، الرجلين، للتخفيف من آلام التشنجات العضلية، وعلى البطن لتخفيف المغص واضطرابات الأمعاء، كما تستعمله النساء مرطباً للبشرة للحفاظ على نضارتها وجمالها. تبقى الخطوط العريضة التي تمتد على أطراف الحطة هي النقش الأخير الذي يرمز إلى خطوط التجارة في فلسطين وبين المدن.
حاول الصهيوني سرقتها وتشويهها عبر تحويلها إلى «موضة» و«ترند»

ويربط الفلسطينيون طرفَي الحطة على شكل عقدة للدلالة على الحالة الاجتماعية: يربط طرفاً واحداً إن كان خاطباً، وطرفين إن كان متزوجاً، أما في حال كان أعزب، فيترك الطرفين مسدلين من دون ربط.
تعود الحطة الفلسطينية بشكلها الحالي ولونها الثنائي ونقوشها المطرزة إلى ما قبل ثورة الـ36، فهناك صورة للمناضل محمد جمجوم يرتدي الحطة وتعود إلى ما قبل قيام السلطات البريطانية بالـ«الثلاثاء الحمراء» أي إعدام المقاومين الثلاثة في سجن عكا عام 1930: محمد جموم، فؤاد حجازي، وعطا الزير، شهداء ثورة البراق الذين «لعبوا دوراً بارزاً في التظاهر ضد اليهود» والهجوم على مراكز الشرطة البريطانية للاستحواذ على أسلحة ومحاولة اغتيال المندوب السامي البريطاني. وقد أرّخت فرقة «العاشقين» الفلسطينية لتلك الحادثة عبر الأغنية الوطنية «من سجن عكا» وتقول: «من سجن عكا وطلعت جنازة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، جازي عليهم يا شعبي جازي، المندوب السامي وربعه عُموماً، محمد جمجوم ومع عطا الزير، فؤاد حجازي عزّ الذخير، أنظر المقدر والتقادير، بأحكام الظالم تَيِعِدمونا». وتشير مصادر إلى ظهور الحطة الفلسطينية منذ أواخر القرن التاسع عشر في الفترة التي بدأت تشهد هجرات يهودية إلى السواحل الفلسطينية وإنشاء مستعمرات زراعية. أصبحت الحطة معروفة عالمياً كرمز فلسطيني للنضال ضد الاحتلال مع ظهور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في خطابه في الأمم المتحدة عام 1974 وهو يرتديها بطريقته الخاصة. كان أبو عمار يستعملها أيضاً لغة تواصل بحيث أضاف إليها فكرة لفها بطريقة ترسم القدس (المسجد الأقصى) من الأمام، وتتدلى الحطة إلى يمينه فترسم شكل خريطة فلسطين. ارتداء عرفات للحطة باستمرار جعلها بالنسبة لكثيرين من الفلسطينيين، وغيرهم، يعدون الحطة البيضاء ذات النقوش السوداء رمزاً لحركة «فتح»، ما دفع بمناضلي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» إلى استعمال الحطة الحمراء (ذات نقوش حمراء بدلاً من اللون الأسود التي تشتهر بها المناطق الداخلية)، كما أنّهم وجدوا في لونها الأحمر دلالة على الحركات اليسارية.
تبرز الحطة الحمراء اليوم مع معركة طوفان الأقصى حيث يلفّها على وجهه «أبو عبيدة» الناطق العسكري باسم «كتائب القسام» التابع لحركة «حماس» (نسبةً إلى الشهيد عز الدين القسام)، يطلّ محمد الضيف القائد العام للجناح العسكري وهو يرتديها أيضاً. وقبلهما اشتهر فيها مهندس التفجيرات الشهيد يحيى عياش، والشهيد عماد عقل الغزاوي الذي كان من مؤسسي القسام في الضفة الغربية وأطلق عليه رئيس وزراء العدو الصهيوني إسحاق رابين، لقب «الأسطورة» لكثرة العمليات النوعية التي خططها ونفذها ضد الاحتلال. إذاً جاء الاعتماد أكثر على الحطة الحمراء لتمييزها عن الحطة البيضاء باعتبارها سياسياً «فتحاوية»، لكن كلتا الحطتين هما من التراث الفلسطيني وترمزان إلى الرجولة والثورة في وجه الظلم والاحتلال. هذه الرمزية التي تعكس طبيعة الشعب الفلسطيني، حاول الصهيوني سرقتها ثم تشويهها عبر سعيه إلى تحويلها إلى «موضة» و«ترند»، فجاءت أزياء المصمم الإسرائيلي يارون مينكوفسكي في عرضه عام 2015 معتمدة على الحطة الفلسطينية، إذ ارتدت إحدى العارضات الحطة الفلسطينية فوق مايوه، وفي صورة أخرى من العرض ارتدته فتاتان كانتا تبدوان كأنهما تريدان تقبيل بعضهما. كما انتشرت الحطات الملوّنة التي يسمّيها الفلسطينيون بـ«الحطات المزيّفة» في مقابل «الحطة الأصلية»، ومنها اللون الزهري والأصفر والفوسفوري. ألوان لا يعتبرها الفلسطينيون «رجولية» بل يرون في الحطات الملونة تقليلاً لرجولتهم وتشويهاً لتاريخهم وتراثهم.

* من محاضرة عن الحطة ألقتها صاحبة هذه السطور في جناح «دار المجمّع الإبداعي» ضمن فعاليات «معرض لبنان الدولي للكتاب»