لم يحمل غسان كنفاني طوال حياته بندقية، لكنه حمل قلماً، وهذا وحده كان كافياً ليكون مؤثراً إلى الدرجة التي جعلته يكتب نهاية حياته بالقلم الذي قاوم به. يهزأ بعضهم بحالة النفير العام التي تسود وسائل التواصل الاجتماعي من مشاعر تعاطف ومؤازرة يشهدها العالم العربي لمناصرة القضية الفلسطينية. يقول بعضهم: «رح تحرّر القدس إذا نزلت بوست تعاطف؟». ربما لن نحرر القدس بكتابة مشاعر التعاطف والمناصرة في فضائنا الأزرق، وباستبدال صورنا في المطاعم الفخمة على إنستغرام بصور العلم الفلسطيني، وبإضاءة بعض الرموز العمرانية المشهورة بعلم فلسطين، ولكن يكفينا أن نُسجل موقفاً، ويكفينا أننا قلنا عبر هذا التعاطف كلمة حقٍّ، لا بل أعلينا كلمة الحقّ، وخلقنا حالة من البلبلة في صفوف الكيان، ما دفع أنصاره إلى القيام بحركة مشابهة لكسب التعاطف اتجاهه لكن من دون جدوى تُذكر.
تجاوزات حقوق الإنسان، والإجرام الذي ارتكبه الكيان بحقّ الإنسانية والطفولة لا يخفى على أحد، وعلى مرّ العصور لم يستطع أحد أن يُخفي الشمس بيده، وكذلك الحق، لن تستطيع محاولات العدوان المستمرة في التضليل الإعلامي وإخفاء الحقائق، أن تخفيه يوماً. لذا لنستمر نحن في توثيق تجاوزات وانتهاكات المحتل ونشرها على أوسع نطاق كي نكتب التاريخ بقلمنا لا بسلاح المحتل.

عمل للفنان الفلسطيني الراحل خالد منصور عيسى (1970 ـــ 2021). عن حساب «مَثقَف»

بالعودة إلى حالة التعاطف التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي وكانت أشبه بالطوفان الذي أيّد «طوفان الأقصى» واحتفى بانتصاراته، وأوضح للعالم أجمع أننا قادرون على استرداد الحق، كان أشبه بأدب المقاومة الذي تحدث عنه الأديب الفلسطيني غسان كنفاني الذي يعتبر واضع هذا المصطلح والمؤسس له. تحدث عن الأدب الذي بدأ في مرحلة النكبة، الذي وقف ضد الاحتلال ونادى بالحرية والاستقلال رغم كتابته تحت ظروف الحكم العسكري الذي فرضه الكيان الإسرائيلي.
وفي سياق الخوف من الكلمة وأثرها العميق في تحريك ضمير الأمم، والمساهمة في تحرير الأرض بفعالية لا تقل عن فعالية السلاح، نجد أن الكيان الذي اغتال كنفاني في الثامن من تموز (يوليو) 1972 بعبوة ناسفة في سيارته، لم يتوقف عن تكرار جريمته الشنيعة بحق الكلمة وأصحابها وبطرق اغتيال وقتل وإجرامٍ مختلفة عن سابقتها. بدلاً من استخدام القلم في مواجهة القلم، استخدم الكيان الصواريخ لمواجهة الكلمة بقصف 33 مؤسسة صحافية وثّقتها نقابة الصحافيين الفلسطينيين في عشرة أيام من القصف الإسرائيلي على غزة، عدا عن الأضرار التي لحقت بأكثر من سبعين صحافياً في قطاع غزة، إضافةً إلى تسجيل نحو مئة انتهاك بحق صحافيين فلسطينيين أثناء توثيقهم الانتهاكات التي جرت في الضفة الغربية والقدس... هذه الأمثلة وغيرها تُثبتُ خوف الاحتلال من الكلمة وأثرها في قلب الموازين، وتغليب الرأي العام باتجاه كفة الحقّ. لذا نجد أنّ محاولة انتهاك أمن الصحافيين وتدمير مؤسساتهم وقتلهم وكسر أقلامهم هي جزء لا يتجزأ من خطة الاحتلال في انتهاك الحقوق وسلب الحريات.
تسجيل نحو مئة انتهاك إسرائيلي بحق صحافيين فلسطينيين


لذا فإن الشكل الثقافي للمقاومة لا يقلُ أهميةً عن المقاومة المسلحة، وهما عاملان مترافقان يكمل أحدهما الآخر. يمكن القول إن ما نكتبه على صفحاتنا على وسائل التواصل هو بمثابة تسجيل موقف ثقافي وفكري وحتى موقف مقاوم في مواجهة المحتلّ الظالم وأعوانه، وإن تجربة المقاومة الحديثة هذه التي تحاكي روح العصر الحالي وتطوّر حربه الإعلامية تتمثل في إذكاء مفاهيم وقيم الانتماء والهوية والحرية، وكل تجارب الدفاع عن الحياة الفضلى التي تُعلي من شأن الإنسان.
لذلك نلاحظ أن توأم الكلمة في هذه التجربة المؤثرة هو الوعي الذي يُشكل أهمية بالغة في طرق تكوين الموقف المؤثر، ثم العمل على تحويله إلى طاقة قادرة على التحريك في سياق هذه المواجهة المحتدمة.
وهكذا نجد أنّ الكلمة لها أثر في هذه الحرب لا يقلُ أبداً عن أثر البندقية. لذا علينا ألا نبخل في نشر كلماتنا المساعدة والمساندة لأهلنا في فلسطين حتى نتمكن من الاستمرار في المحافظة على كوننا أصحاب حق استطعنا لفت أنظار الرأي العام إلى قضيتنا الأولى.