يُطلق المؤرّخ اليهودي العراقي البريطاني آفي شلايم تسمية المؤرّخين «القدماء» على هؤلاء الذين قدّموا «الرؤية الصهيونية التقليدية» ولعبوا دوراً فعّالاً في تزوير الحقائق وكتابة التاريخ من منظور عسكري واستعماري يبرّر قيام الدولة اليهودية. وحين أتى المؤرّخون الجدد أمثال إيلان بابيه وبيني موريس، أضافوا نظرةً جديدةً إلى قراءة تاريخ الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. في محاضرة ألقاها قبل أيام، اعتبر بابيه أنّ أكبر التحديات التي يواجهها المناضلون اليوم عقود من البروباغندا والتلفيقات والسرديات المضادة التي رسمت صورة خاطئة عن فلسطين تشكّلت بمؤازرة الأوساط الأكاديمية والإعلام وهوليوود والمسلسلات التلفزيونية. برأيه، المطلوب اليوم إرفاق العدالة بالمعرفة التاريخية العميقة و«تحليل عميق ودقيق للواقع باستخدام اللغة الصحيحة»


لاحظ المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935-2003) في كتابه «مسألة فلسطين» (1979) كيف أنّ الترويج للصهيونية كفكرة ظهرت عند مؤلّفين أوروبيين منذ السبعينيّات من القرن التاسع عشر، أمثال جورج إليوت (اسم مستعار للكاتبة الإنكليزية ماري آن إيفانز) في رواية «دانيال ديروندا». كان الكتّاب في الغرب يهيّئون ويشجّعون عبر الأدب فكرة تجمّع اليهود المظلومين والمشرّدين في شتّى أصقاع العالم، في وطن واحدٍ خاص بهم ولهم. ولأنّ الغرب حينها كان لا يدرك شيئاً عن الشرق سوى ما ينقله المستشرقون من «همجية» و«تخلّف» و«جهل» و«ظلام»، كان بديهياً حث اليهود على احتلال أرضٍ عربية في الشرق، فالشرق لا يستحق أن يكون له صوت أو رأي. اللافت والصادم في الأمر أنّ أسماء كبيرة من الفلاسفة المنظّرين للعدالة والرافضين للظلم والقمع مالوا إلى أن «الحرية والتمثيل الحكومي والسعادة الفردية لا ينبغي تطبيقها في الشرق». يمكن القول اليوم إنّه حتى بعد مؤلف سعيد المرجعي «الاستشراق» الذي يُدرّس في الجامعات الغربية، ما زال الغرب بمعظم منظّريه ومؤرّخيه، يدافع عن الاستعمار الصهيوني ويبرّر له احتلاله لفلسطين وإبادته للشعب العربي الذي تنبّه منذ عشرينيات القرن الماضي إلى خطر الهجرات اليهودية الكثيفة وإنشاء «الكيبوتسات»، ونقل مخاوفه عبر الصحف الفلسطينية قبل تنظيم الحركات المقاومة للاستيطان.
لعب المؤرّخون «القدماء» في الكيان الصهيوني ـــ وفق تعبير المؤرّخ البريطاني آفي شلايم (1945، وهو يهودي عراقي هُجّرت عائلته إلى «إسرائيل») الذي يُشير عبره إلى «الرؤية الصهيونية التقليدية» ـــ دوراً فعّالاً في تزوير الحقائق وكتابة التاريخ من منظور عسكري واستعماري يبرّر قيام الدولة اليهودية بسردية غير مهنية ولا موضوعية. لكن ظهور مجموعة من المؤرّخين الجدد في الكيان العبري أمثال إيلان بابيه وآفي شلايم وبيني موريس أضافت نظرةً جديدة إلى قراءة تاريخ الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. أمر دفع بالمؤرخين القدماء من بينهم الصهيوني شبتاي تيفيث (1925 - 2014) مؤلّف سيرة رئيس وزراء العدو الأول ديفيد بن غوريون، إلى اتهامهم بأنّهم «ذوو دوافع سياسية ومناصرين للفلسطينيين ويهدفون إلى نزع الشرعية عن الصهيونية ودولة إسرائيل».
في نصّه «النقاش حول 1948» (The Debate about 1948) الصادر عام 1995، بيّن شلايم أنّ «التاريخ هو، بمعنى ما، دعاية المُنتصِرين»، موضحاً أنّ المؤرّخين الكلاسيكيين لم يميّزوا بين كتابة التاريخ والبروباغندا، فدور المؤرّخ لا يكمن في «تأريخ» العمليات العسكرية وتدوينها، بل في قراءة الأحداث و«تقييمها». شارك شلايم مع موريس وبابيه في عمل مشترك قدّمهم في الساحة الأكاديمية والمهنية على أنّهم «مؤرّخون جدد» يعيدون كتابة التاريخ عبر نفي معظم الروايات التقليدية القائمة على الأساطير اليهودية والدعاية الصهيونية، وخصوصاً بعد حصولهم على وثائق كانت سرية وغير متاحة سابقاً للمؤرّخين القدماء. إذاً يعترف المؤرّخون الجدد بإنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين بواقعية القوة العسكرية والسياسية، ويرون أنّ الوجود الصهيوني استعمار واحتلال قام تاريخياً على حساب السكان الأصليين بعد قتلهم وترهيبهم وطردهم وتطهير «الدولة» جغرافياً من غير السكّان اليهود. كذلك الأمر بالنسبة إلى المؤرخين اليهود خارج فلسطين المحتلة والمعادين للصهيونية أمثال المؤرّخ والباحث نورمان فينكلستين الذي يرى أن الكيان الصهيوني ومناصريه يستخدمون «بطاقة المحرقة» اليهودية لجرّ الغرب إلى التعاطف غير المشروط معه. كما كان موقف المنظّرة النسوية والجندرية جوديث بتلر التي أعلنت أكثر من مرة أنّها «يهودية غير صهيونية» تنظر إلى الوجود الإسرائيلي في فلسطين على أنّه استعمار واحتلال ذو نظام عنصري يرتكب العنف والجرائم بحق السكان الأصليين. لكنّ مع انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان لبتلر بالتحديد موقف جديد مغاير لكلامها المعتاد عن الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حركة «حماس». هذا التغيير في اللغة والطرح لدى الأكاديمية، يجب الوقوف عنده وتأمله باعتباره لغة خطابٍ جديدة ينتهجها العدو الصهيوني، مغلّفة بالتحليل المنطقي والتاريخي للصراع الفلسطيني الصهيوني الذي يدفع القارئ الغربي المحايد أو غير المتابع للمسألة، إلى قبول طرحها «العقلاني» وتبنّي موقفها الرافض «للعنف» من كلا الطرفين (الكيان الصهيوني من جهة وحركة «حماس» من جهة أخرى).
في ما يلي نعرض موقف المؤرّخين والمنظّرين اليهود الثلاثة من «معركة الطوفان» والحرب على غزة التي تستمر لليوم الثامن والعشرين حيث يستعمل العدو الصهيوني أسلحة محرّمة دولياً ويرتكب جرائم حرب وإبادة من بينها: قصف المستشفيات، واستهداف المجمّعات السكنية المدنية والمكاتب الصحفية والإعلامية، وشن غارات على مدارس تابعة لوكالة الأونروا.

نورمان فينكلستين يتصدى للبروباغندا
منذ بدء عملية «طوفان الأقصى» ظهر المؤرخ نورمان فينكلستين (1953) بدور هام وفعّال على منصّة إكس (تويتر سابقاً) متصدّياً للدعاية الصهيونية في الغرب. الباحث اليهودي المعادي للصهيونية الذي صرّح مراراً أنّه ينبغي لليهود عدم التحوّل إلى مضطهِدين لغيرهم لأنّ ذلك يجعلهم أسوأ من النازيين ويشوّه تاريخهم، قال في إحدى المحاضرات المصوّرة أخيراً أنه «لو كان لليهود قلوب لوقفوا بالتأكيد إلى جانب القضية الفلسطينيين ضد الصهيونية والاستعمار». يمكن اعتبار حساب فينكلستين على المنصّة بمثابة «فِلتر» للأخبار والمواقف المضلّلة التي تسهم في التلاعب بعقول وعواطف الجماهير عبر ترسيخ الرواية الصهيونية للصراع الفلسطيني الصهيوني. يعلّق المؤرّخ بشجاعة على تغريدات عدد من السياسيين والإعلاميين والمثقفين الغربيّي الانتماء والصهيونيّي الهوى، وإن كانت جذورهم شرقية مثل الإعلامي في قناة MSNBC مهدي حسن ذي الأصول الهندية، الذي نشر تغريدة عن خبر غير صحيح يقول فيها «إنّ أخذ الأطفال كرهائن، إذا تم تأكيده، هو، ببساطة واضحة، عمل همجي ولا يفعل شيئاً لدفع قضية السلام أو المقاومة أو إنهاء الاحتلال» (يجدر القول إنّ القناة استبعدته في ما بعد مع صحافيَّين آخرين لأنهم مسلمون). كما وصف فينكلستين بـ «الغباء» تغريدة عضو مجلس النواب الأميركي إلهان عمر الصومالية الأصل، التي تدين فيها «الأعمال المروّعة التي تحدث في إسرائيل ضد الأطفال والنساء والمسنّين والعزّل الذين يذبحون ويحتجزون كرهائن من قبل حماس». وقبل أيام، تحدّى تشاك شومر مطالباً بإجراء نقاشٍ هادف عن غزة بينهما. وفي لقاء آخر عبر منصة اليوتيوب في «برنامج كاتي هالبر» التي تعرّف عن نفسها عبر حسابها بأنها «يهودية من أجل الوقف الفوري لإطلاق النار» A Jew for #CeasefireNow، قال فينكلستين «إنّ التظاهرات في الغرب تقوم بفارق ملحوظ، تعليقاً على التظاهر في Grand Central Station بأنّها كانت مبهرة تحبس الأنفاس».

إيلان بابيه يشرّح الأزمة الصهيونية
اشتهر المؤرّخ الإسرائيلي ومدير «المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية» في «جامعة إكستر» البريطانية إيلان بابيه (1954)، بعمله «التطهير العرقي في فلسطين» (The Ethnic Cleansing of Palestine ــــــ 2006) الذي يعدّ من الكتب الأكثر انتشاراً في الأوساط الأكاديمية والبحثية في ما يتعلّق بتاريخ الصهيونية الحديثة وإستراتيجيات احتلالها لفلسطين عام 1948، عبر التطهير العرقي بشتى الوسائل والأساليب. أبرز ما توصّل إليه بابيه في الكتاب ما وصفه بـ«الجريمة ضد الإنسانية» أي Plan Dalet (كان قد نشرها قبله المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي عام 1988)، الخطة المفصّلة التي تضمّنت أوامر مباشرة لعصابة الهاغاناه بالقتل المباشر وقصف القرى وزرع الألغام وهدم البيوت وإثارة الرعب في نفوس السكان الأصليين حتى يفرّ من يبقى منهم على قيد الحياة. علماً أنّ بابيه كان أستاذاً محاضراً في جامعة حيفا لأكثر من عقدَين، لكنّه تعرّض للضغوط والمضايقات والتهديد والطرد من الجامعة بعد عام على نشر كتابه، إذ أصبح «غير مرحّب به في إسرائيل» بسبب موقفه وأفكاره ورؤيته النقدية الجديدة لتاريخ الدولة اليهودية القائمة على أرض فلسطين.
الصراع في كيان الاحتلال «بين الأبارتهايد العلماني والأبارتهايد المسيحاني الديني والثيوقراطي» (إيلان بابيه)


قبل أيام قليلة، ألقى إيلان بابيه محاضرة في «جامعة يو سي بيركلي» بعنوان «أزمة في الصهيونية: هل تكون فرصة لفلسطين؟» طرح في مقدمتها موضوع الحرب «الأهلية» الإسرائيلية (الثقافية) باعتبار أنّ السنوات الأخيرة قد أظهرت انقسامات بائنة في المجتمع، بالإضافة إلى تظاهرات حاشدة خرجت في الآونة الأخيرة للاحتجاج على تعديل الدستور الذي تحاول فيه الحكومة الإسرائيلية «إنشاء نظام سياسي جديد تتمتع بموجبه القوى السياسية بالسيطرة الكاملة على النظام القضائي، وسيكون المجال العام خاضعاً لسيطرة أكبر بكثير من قِبل الجماعات اليهودية الدينية والمسيحية». شرح بابيه أنّ الصراع على هوية «إسرائيل» كان محتّماً أن يحدث بين دولة يهودا «التي أنشأها المستوطنون اليهود في الضفة الغربية، وكانت، نوعاً ما، مزيجاً من اليهودية المسيحانية والتعصّب الصهيوني والعنصرية» وقد حاولت «فرض حياتها، وتصورها للحياة على بقية إسرائيل، خارج ما نسميه يهودا، بمعنى ما خارج الضفة الغربية أو المساحة اليهودية في الضفة الغربية»، وبين دولة إسرائيل المتمثلة في مدينة تل أبيب التي تقوم على «فكرة أنّ إسرائيل تعددية، ديموقراطية، علمانية، غربية، أوروبية إذا أردت، وتقاتل من أجل حياتها ضد دولة يهودا». يوضح المؤرّخ المعادي للصهيونية بأنّ دولة الاحتلال تجاهلت تماماً الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وفي غزة، باعتبار أنّ الدولة الفلسطينية ضعيفة، والمناسبة لا تسمح بالنقاش في موضوع الاحتلال كجزء من «مستقبل إسرائيل». في الواقع، «كل من كان يحاول طرح الاحتلال كموضوع للاحتجاجات الأسبوعية ضد الإصلاح القانوني أو الثورة القانونية -كما يحلو لهم أن يسموها- طُلب منه المغادرة وعدم الظهور مع المجموعة الأكبر من المتظاهرين الذين كانوا يلوّحون بالعلم الإسرائيلي. بالتأكيد، لو أحضرت العلم الفلسطيني إلى تلك التظاهرة، فسوف تُضرب وتُطرد من التظاهرة». وأكمل قائلاً إنّ المواضيع الهامة لم يتم التطرق إليها أو السماح بمناقشتها لأنّ الصراع في دولة الاحتلال «هو في جوهره صراع بين شكلين من أشكال التمييز العنصري: الأبارتهايد العلماني الإسرائيلي حيث يتنعّم اليهود الإسرائيليون بديموقراطية تعددية، ديموقراطية على النمط الغربي، وهذا هو نوع الأبارتهايد الذي يريدون الحفاظ عليه، ولديك النسخة المضادة وهو الأبارتهايد المسيحاني الديني والثيوقراطي. لذا كانت المعركة عبارة عن قضية يهودية محلية تتعلق بنوع الحياة اليهودية التي ستكون في المجال العام من دون أي إشارة إلى حياة الفلسطينيين». وأشار بابيه إلى الصحافية في جريدة «هآرتس» عميرة هاس التي كتبت أنّه «طالما أنّ الإسرائيليين غير قلقين ــــ ينطبق هذا الأمر حتى تاريخ السابع من أكتوبر 2023 - فإن الاحتلال غير موجود، بمعنى أنه لم يعد مشكلة بعد الآن بل جرى حلّها».
يوضح المؤرّخ الأكاديمي في محاضرته إلى أنّ «إسرائيل الآن تحت وهم بصري بسبب الصدمة التي مرّت بها في صباح السبت 7 أكتوبر، اختفت كل هذه الشقوق في البنية الصهيونية لأن هجوم «حماس» كان مؤلماً ومدمّراً إلى درجة نسيان كل السجالات الداخلية. اتحد الجميع خلف الجيش وخطته الحالية لغزو قطاع غزّة، وإكمال ما سبق أن بدأه بالفعل وهو سياسات الإبادة الجماعية على الأرض.

اللغة التي يستخدمها مَن يُسمّون بـ «القوى التقدمية الليبرالية» تحصّن إسرائيل، ولا تسمح بتبرير النضال الفلسطيني ضد الاستعمار

لكنني أعتقد أن هذا مجرد وهم بصري، فالصراع الداخلي الإسرائيلي لم ينته وسيعاود الظهور». يوضح بابيه أن قراءة السابع من أكتوبر لا يجب أن تحدث بمعزل عن «سياقها ومسارها التاريخي: وهذا أمرٌ لن يتغير في الأسابيع المقبلة. فالواقع على الأرض لا يزال الواقع نفسه الذي كان قائماً قبل 7 أكتوبر. منذ عام 1929 على الأرجح، والشعب الفلسطيني منخرط في نضال من أجل التحرير. إنه نضالٌ ضد الاستعمار الاستيطاني وكل نضال مناهض للاستعمار يمرّ بمطبات ويمتلك لحظات من المجد، كما يمر بلحظاتٍ عصيبة من العنف، فإنهاء الاستعمار ليس عملية سلسة ومنظّمة، بل عملية بلا قوانين. وكلما طال أمد الاستعمار والقمع، كلما زاد احتمال أن يؤول إلى فورة عنيفة ومحرقة على صعد كثيرة. وهذا مهم جداً لتذكير الناس بتاريخ تمرّد العبيد في هذه البلاد، وكيف أُنهي الاستعباد». يذكر بابيه بأنّه في 7 أكتوبر الذي جرت فيه عملية «طوفان الأقصى»، يحتفل الإسرائيليون بالحب والسلام بينما يقبع على بُعد كيلومترين «وراء ذلك السور أكثر الحصارات وحشيةً في تاريخ البشرية، وهو حصار مستمر منذ أكثر من 15 عاماً». ويضيف إنّ «أكبر التحديات التي نواجهها كناشطين من أجل فلسطين أنّنا لا نستطيع تحدّي عقود من البروباغندا والتلفيقات والسرديات المضادة بالمقاطع الصوتية، وهذه مشكلتنا الرئيسية، نحن بحاجة إلى مساحة ووقت لشرح الواقع لأنّ الكثير من المنصّات والكثير من مصادر المعلومات والكثير من الأماكن التي تنتج المعرفة، رسمت صورة ووضعت تحليلات خاطئة عن فلسطين جرى تشكيلها على مرّ السنين بمساعدة الأوساط الأكاديمية والإعلام وهوليوود والمسلسلات التلفزيونية التي تؤثر على عقول الناس وعواطفهم». يشرح بابيه أنّ القصة المفبركة عن فلسطين لا يمكننا تحدّيها بقصة أو بالإحساس الفردي بالعدالة، بل نستطيع تحدّيها بإرفاق العدالة بالمعرفة التاريخية العميقة و«تحليل عميق ودقيق للواقع باستخدام اللغة الصحيحة لأنّ اللغة التي يستخدمها مَن يُسمّون بالقوى التقدمية الليبرالية تحصّن إسرائيل، ولا تسمح بتبرير النضال الفلسطيني ضد الاستعمار، ولا يجعله مقبولاً شرعياً».

جوديث بتلر تلعب على اللغة
يمكن الانتقال بسلاسة بين ما قاله المؤرخ إيلان بابيه وما صرّحت به الأكاديمية النسوية جوديث بتلر. على الرغم من تناقض موقفيهما في قراءة عملية «طوفان الأقصى» وما قامت به المقاومة الفلسطينية، إلّا أنّ بتلر التي قالت في مقالها «بوصلة الحداد»: «أنا أدين من دون قيد أو شرط أعمال العنف التي ترتكبها حماس. كانت مذبحة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز. كان هذا رد فعلي الأساسي، وهو مستمر»، حاولت اللعب على اللغة التي وصفها إيلان بابيه بأنها «لغة تحصّن إسرائيل ويستخدمها من يُسمون بالقوى التقدمية الليبرالية». تأرجحت بتلر في مقالها بين الاعتراف لغوياً بالوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين بوصفه احتلالاً واستعماراً يقوم على «قصف بلا هوادة، وقتل الناس من كل الأعمار في منازلهم وفي الشوارع، والتعذيب في سجونهم، وأساليب التجويع في غزة وسلب المنازل. ويُمارس هذا العنف بأشكاله المتعددة ضد شعب يخضع لقواعد الفصل العنصري والحكم الاستعماري وانعدام الجنسية»، وبين إدانة ما قامت به المقاومة الفلسطينية من عملية جاءت ردة فعل على الاحتلال وقضم الأراضي وقتل الفلسطينيين. الخطير في ما تقدّمه بتلر كونها يهودية معادية للصهيونية ومنظّرة تحرير الجسد من القمع والضغط والسلطة، هي اللغة التي تستعملها في تناول عملية الطوفان وحق الفلسطينيين في الرد على الوحشية والاضطهاد اللذين يمارسهما العدو الصهيوني منذ ما قبل النكبة. تنادي بتلر بالعدالة وتدّعي فهمها وإدراكها للصراع التاريخي بين الاحتلال والفلسطينيين وتحاضر بالمثقفين والأكاديميين الذين حدّدوا موقفهم من الصراع بمناصرتهم «غير المشروطة» للقضية الفلسطينية بما في ذلك النقاش في عملية «طوفان الأقصى»، معتبرةً أن ما يقومون به من تبرير فعل حركة «حماس» برد طبيعي على جرائم الاحتلال والإبادة والتطهير الممنهجين هو ممارسة «شكل فاسد من التفكير الأخلاقي لتحقيق هذا الهدف». لا تخجل من مساواتها لطرفي الصراع، معتبرةً أنّ همجية الاحتلال الصهيوني تجاه الفلسطينيين هو «عنف» وما فعلته حركة «حماس» في «طوفان الأقصى» هو «عنف» أيضاً. هذا ما نبّه إليه إيلان بابيه في إجابته على طريقة الرد وتحدّي البروباغندا الصهيونية الغربية التي رسمت على مر العقود صورة غير حقيقية عن الفلسطينيين وزوّرت الواقع عبر وسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات التلفزيونية.