لم تغب القضية الفلسطينية عن كتابات ممدوح عدوان (23 نوفمبر 1941 - 19 ديسمبر 2004) فكراً وبَحثاً ومسرحاً وشعراً. وإذا كان لكلّ امرئ من اسمه نصيب، فثمّة قصةٌ مرتبطةٌ باسم ممدوح لها صلةٌ وثيقةٌ برفض الاحتلال أيّاً كان. هو الذي وُلِد في قرية قيرون بالقرب من مصياف في محافظة حماة السورية، سمّته عائلته «مدحت» وهو الاسم الذي عرفه به أهل قريته، وكان والده يُكنّى بأبي مدحت. إلّا أنَّ أحد الأعيان أشار إلى أنَّ «مدحت» اسم تركي يجب تغييره، كنوعٍ من الرفض لاستمرار احتلالٍ غير ملموسٍ، عُقب احتلالٍ عثمانيٍّ مباشرٍ دام ثلاثة قرون عانى فيها الإنسان السوري من الاستبداد والتحكّم والتعذيب والاضطهاد. هكذا، اختارت له العائلة اسماً جديداً للنداء هو «ممدوح». منذ تلك اللحظة، نال الحرية واختار التمرّد دوماً، ما انعكس على جميع الأجناس الأدبية التي كتب فيها. تنقّل بين المسرح والشعر والقصة والمقال والرواية والأعمال الدرامية والترجمة، مُتمرّداً على الحزن والضعف والظلم والاحتلال، راصداً أكثر المواقع حَرَجاً في الثقافة، مُتجَرِّئاً على المسكوت عنه في السياسة، مُعرّياً التجاوزات والخروقات في الحياة الاجتماعية، مناصراً الفرد المكبوت والمقهور والضعيف، مُلتزماً بالقضايا القومية والوطنية التي وصفها «بالخاسرة»، ومؤمناً بالحياة الموقتة والجنون والحكمة والموت. الموت لكن بشرط أن نُنجز كلّ ما استطعنا قبل وصوله، قائلاً: «حين يأتي الموت، الذي لا بدّ أن يأتي، يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتّى الرمق الأخير، عشنا حياتنا بكبرياءٍ وكرامةٍ، وأدّينا واجبنا بشرفٍ، حينها لن يقول لنا الموت بشماتته المعهودة: لن تأخذوا معكم شيئاً، بل نحن الذين سنقف أمامه باعتزازٍ وكبرياءٍ لأنّنا لم نترك وراءنا ما لم نعشه». هذه العبارة تأخذنا في اللحظة الراهنة إلى أهل غزة، الأحياء منهم والضحايا الذين غادروا الحياة عنوةً، الذين قضوا حياتهم بِعزةٍ وكرامةٍ لا مجال للمساومة عليهما، رافضين التخلّي عن أصلهم وأرضهم وبيوتهم، وقد أدّوا واجب الحياة بكامل الشرف والشجاعة، ساخرين من الوجود في أشدّ الأيام قهراً وألماً، شاهدين بكامل كبريائهم على إبادتهم الجماعية أمام عجزٍ عالميٍّ عن التدخل لإيقاف مجازرَ احتلالٍ فاق النازية بإجرامه، ووسائل إعلامٍ منافقةٍ وصفها ممدوح عدوان بعبارته الشهيرة «الإعلام يكذب حتى في النشرة الجويّة». وسائل إعلامٍ مُجنّدة لاستعطاف شعوب العالم للتعاطف مع إسرائيل وقضيتها المبنية على أساس التصفية والإبادة لإقامة دولة إرهابية تتوسّع في المنطقة حتّى تصل حدود الفرات شرقاً والنيل في الجنوب الغربي. فِعل العدو الهمجي هذا سنجد أنّ عدوان قد وصفه بدقةٍ في أكثر كتبه عمقاً «حيونة الإنسان». في هذا العمل، كشف بوصفه مفكّراً محايداً ورصيناً عن الظلم، والتنمّر، والطعنات التي تعرّض لها الإنسان الضعيف علَنيّاً، ومن جانب آخر عن مراحل تطوّر مراتب البهيمية التي تبدأ من الجانب المُظلم في دهاليز النفس البشرية وتصل إلى مرحلةٍ لا تتورّع فيها عن إهانة الإنسان بأوضع الطرق، وارتكاب أفظع الجرائم لإشباع غرورٍ يُغذّيه منطق القوة، وعن أدوات صناعة الوحش. كأنّه بذلك يصف حرفياً تطور مراحل البهيمية للإسرائيلي الذي وصلت به الحال إلى قصف المستشفيات والمدارس غير آبه بالأخلاق والإنسانية، بل مُستنداً في وحشيته إلى دعم القوى السياسية والعسكرية العالمية الكُبرى، التي منحته بالمجّان «نرجسية جماعية». هذا النوع من الأمراض النفسية تتجلّى خطورته حين يتفوّق شعب في ميدانٍ ما، ولا سيما العسكري، فيلجأ حينها إلى تشويه أعدائه من أجل أن يخلق لنفسه أسباباً تُسوّل له معاداته وأذيته واضطهاده، بل حتّى قتله. وكما كتب ممدوح عدوان في «حيونة الإنسان»: «إنّ الطيّار الذي يتلقّى أمراً بقصف قرية، لا يسأل عمّا إذا عمله هذا جيداً أو سيئاً، هذا ليس من شأنه، عليه فقط أن ينفّذ الأوامر». تلقّي الأوامر من جهة سيادية سادية أعلى، كافٍ لاقتلاع الرحمة من قلب الإنسان المصاب بالنرجسية الجماعية وإثارة البهيمية الكامنة في داخله. لكن هذا لا يُلغي دورنا حتّى لو كنّا عُزّلاً وعاجزين كأفراد عن حمل السلاح والدفاع عن أصحاب الحق، بل تكمن مهمة أيّ إنسانٍ أعزلٍ يرى المشهد من بعدٍ، في تقديم الدعم المعنوي عبر وقفات التضامن والتظاهر ووسائل التواصل الاجتماعي ورفض اعتياد المشهد الإجرامي، فاعتياد المشهد والانصراف عنه هو بمنزلة التنازل عن الاعتراف بفلسطين وبأهلها وبحقوقهم. وهذه النقطة المهمّة ذكرها عِدوان في الكتاب ذاته، مُشيراً إلى خطورة التعوّد: «نتعودّ؟ تعرف ماذا تعلّمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئاً عن التعوّد، حين نشم رائحة تضايقنا، فإن جملتنا العصبية كلها تتنبّه وتعبّر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخفّ الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حسّاسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسّس، ثمَّ لم تعد تنبّه الجملة العصبية. والأمر ذاته مع السمع، فحين تمر في سوق النحّاسين، فإن الضجة تثير أعصابك، لكن لو أقمت هناك لتعوّدت مثلما يتعوّد المقيمون والنحّاسون أنفسهم، السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. فنحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا».وفي كتابه «تهويد المعرفة»، يناقش، معتمداً الأسلوب النقدي التفكيكيّ، كيف استطاعت الصهيونية خداع العالم وتسييره عبر أكاذيب مُلفّقة أولها وأشهرها «أرض الميعاد» التي شكّلت بمجملها أساساً لبناء المشروع الإسرائيلي ابتداءً من تزييف التاريخ وتحوير حقائقه بما يخدم مصالحهم ويجعلهم الأصل وأصحاب الحق. هم يدّعون أنّه لم يكن هناك تاريخ في فلسطين إلّا التاريخ اليهودي، والتوراة هي المرجعية الوحيدة لتاريخ هذه المنطقة، فكتب ما يُفسّر حرفياً ممارسات الصهاينة الحالية في قطاع غزة من إبادات جماعية، إلى قتل مُتعمَّد للأطفال، إذ يريد الصهاينة أن يمحوا تاريخ المنطقة عبر قتل الكبار، ومستقبلها عبر قتل الأطفال، ورسم خارطتهم العنصرية، فكتب عدوان: «كانوا قد قرّروا من خلال ركامٍ عالٍ من الدراسات الأكاديمية، أنّه لم يكن هناك تاريخ في فلسطين إلّا التاريخ اليهودي. وهذا لم يكن بحثاً في التاريخ أو بحثاً عن الحقيقة، بل كان جزءاً من المشروع الصهيوني الذي يفعل فعله في العقل الأوروبي، مثلما يفعل اللوبي الصهيوني فعله في كواليس السياسة العالمية المعاصرة. ومثلما استعمروا فلسطين، فإنّهم يستعمرون العقل والبحث العلمي. ومثلما أراد الصهاينة المعاصرون تجاهل وجود شعب فلسطيني في فلسطين - على أساس أنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض - وكذلك قد أقاموا توازياً تاريخياً يجعل من فلسطين في التاريخ أرضاً خالية من الشعب والحضارة، إذ لا وجود لأي تاريخ في تلك الأرض سوى التاريخ اليهودي». يتابع عدوان في كتابه استعراض الادّعاءات التي قامت عليها إسرائيل، بشكلٍ متتالٍ ومتسلسل، بما يُظهر بوضوحٍ كيف صُنعت إسرائيل على مراحل، عبر احتلالٍ علنيٍّ لفلسطين واحتلالٍ باطنيٍّ لأكبر الأكاديميات الأدبية والفكرية والدينية، ومراكز البحوث والدراسات العالمية، ووسائل الإعلام العالمية والسينما ودور النشر. ولا يغفل لوم العرب الذين تجاهلوا أهمية الصراع الثقافي والتاريخي مع إسرائيل وحصروا الأمر بالصراع السياسي بدايةً، لأنّنا سنجد في الوقت الحالي أنّ كثيرين منهم قد تراجعوا حتّى عن الصراع السياسي ووصلت بهم الحال إلى التطبيع مع العدو، في وقتٍ كان فيه الوصول إلى مرحلة التطبيع بالنسبة إلى الصهاينة أمراً في غاية السهولة بعدما تمكّنوا من الاحتلال الفكري والثقافي والاقتصادي لهذه البلدان عبر التركيز على إعادة صياغة التاريخ بما يخدم مصالحهم ويُمكّن وجودهم، بينما تساهل العرب في مسألة حماية تاريخهم والتمسّك به. وهذا تفسير لاتخاذ بعضهم موقفاً حيادياً من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة، رغم أنّه لا يختلف عاقلان إنسانياً وأخلاقياً على بديهية استنكار جرائم الاحتلال التي بلغت ذروة الإجرام بعد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023.
يريدون محو تاريخ المنطقة عبر قتل الكبار، ومستقبلها عبر قتل الأطفال، ورسم خارطتهم العنصرية


ورغم كلّ هذه الوحشية، ستجد متعاطفين مع الاحتلال لسبب بسيط أنّ الحقيقة عندهم مشوّهة، والتّاريخ عندهم مُزيّف، وهذا ما نبّه إليه عدوان في كتابه «تهويد المعرفة» عندما أشار إلى أشكال الاحتلال الإسرائيلي المدروس والمتنوّع، مُنبّهاً إلى أنّ الصراع مع العدو الإسرائيلي ليس صراعاً سياسياً وعسكرياً فقط، بل هو صراعٌ تاريخيٌّ وثقافيٌّ لتكوين عقل هذا العالم: «نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضاً. وهذا يكشف عن الاتّساع الحقيقي لميدان الصراع. إنّ الصراع قائم (وفي غيابنا في كثير من الأحيان) في العالم كلّه، في الجامعات والدراسات والتعليم والموسوعات وتكوين عقل هذا العالم. وليس في فلسطين وجوارها والمخيمات فقط. ومثل هذا الاكتشاف يجب أن يدفعنا إلى التعويض عن غيابنا عن ميادين كثيرة في هذه المعركة المصيرية».
ممدوح عدوان الذي تشكّل إبداعه من هزائم الأمة وخيباتها، لا يختلف كمسرحيّ وشاعر عنه كمفكّر وباحث، فمشروعه الإبداعي متكامل، وجاء ليخدم قضايا الإنسان العربي، وليقف إلى جانبه وسط ما يُعانيه من ظلمٍ واضطهادٍ وقمعٍ واستبدادٍ وسلطات احتلالٍ مُتعاقبة، فكان مسرحه قريناً للحياة اليومية ومرآةً تعكس همومها السياسية والاجتماعية، مُلتزماً فيه بقضية العرب الجوهرية، فجاءت مسرحيته الشهيرة «لو كنت فلسطينياً»، لتقول إنّ الفلسطينيين هم أصحاب الأرض، مهما هُجّروا وقُتلوا وارتُكبت بهم أقبح المجازر. وبمجرد قراءتك المسرحية، سيراودك إحساس بأنّ عدوان قد كتبها متأثراً بأحداث غزة الدموية الراهنة، وما عليك سوى قراءة الصفحة الأولى للمسرحية، لتتوالى في مخيلتك صورُ أشلاءٍ مُعبَّأةٍ لعائلات فلسطينية بأكملها جرّاء القصف الإسرائيلي العشوائي على المجمّعات السكنية في غزة بعد عملية «طوفان الأقصى»، وصورُ نزوح أهالٍ من الشمال إلى الجنوب، وصورُ أشخاص يصرخون على مسمع العالم العاجز عن التدخل لإنهاء هذه الإبادة الجماعية التي شهدوا فيها وعلى مرأى أعينهم كيف قُتلَ أهلهم وذووهم وأبناؤهم بدمٍ باردٍ... كلّ هذه المشاهد الواقعية صوّرها عدوان في الصفحة الأولى من مسرحيته التي اختار أن يبدأها بمجموعة ممثلين يقفون على المسرح وينشدون:
«لو كنتَ فلسطينياً ماذا تفعل؟
لو عشت السنوات شريداً
لو بين الأهل تحوّلت خليعاً وطريداً
لو باعوك وأهدوك
لو طردوك وأفنوك
لم يُسمح لكَ أن تسأل
لو كنت في كلّ صباح
لا تعرف مَن مِنْ أهلك يُقتل!
لو جاء إليك المطرُ قنابل
لو مُزّق أطفالُكَ أشلاء
لا تعرف هل من أهلك هذا القاتل،
أم من جيش الأعداء!
لو منعوك من الآه على قتلاك
لو صودرت الدمعة في عينيك
وقالوا: كُن عاقل
لو جرّوك لتقبيل يدّ القاتل
لو قطعوا حبل الذاكرة مع الماضي، ماذا تفعل؟
لو منعوا عنك حياتك في الحاضر، ماذا تفعل؟
لو سدّوا في وجهك أبواب المستقبل،
لم يُسمح لك أن تسأل
لم يبقَ أمامك إلّا أن تتحمل أو تتعقل
أو في صدرك ينفجر المرجل
لو كنت فلسطينياً..
ماذا تفعل؟»

* المصادر: «حيونة الإنسان»، و«تهويد المعرفة»، و«ممدوح عدوان – الأعمال الشعرية»، و«ممدوح عدوان – الأعمال المسرحية الكاملة»