ليل السبت الفائت، نُفّذت أول عملية تبادل أسرى بين «حماس» والاحتلال الإسرائيلي. ظهر بين عناصر القسّام عنصرٌ أثار تساؤلات كثيرة حول جنسه. كان التحليل متركزاً حول العينين وصغر كفّيه. قيل إنّها امرأة، تابعة لـ «وحدة الظلّ» في «كتائب القسّام»، ليليه التساؤل الأهم: هل لدى «حماس» مجموعة قتالية نسائية؟في عام 2005، أعلنت «حماس» رسمياً عن تشكيل أول خلية مسلّحة من النساء أُطلق عليهنَّ اسم «فتيات القسّام»، تدرّبن على استخدام السلاح بالذخيرة الحية، والقنابل اليدوية، وزرع العبوات الناسفة، وإطلاق الصواريخ والقذائف. وأوضحت أوّل قيادية في المكتب السياسي لـ «حماس» جميلة الشنطي أن نساء الحركة يتلقّين مثل رجالها، تدريبات عسكرية متقدّمة في فنون القتال، من بينهنّ مقاتلات في «كتائب القسّام»، ولكن ليس لدى «حماس» جيش نسائي مسلّح، فالتدريب العسكري يقتصر على مواجهة الطوارئ.

كانت ريم الرياشي أول فدائية لدى «القسّام»


المناضلة ليلى خالد

لكن في عام 2004، كان لـ «القسّام» أول فدائية هي ريم الرياشي من حيّ الزيتون في غزة، التي استشهدت في عملية فدائية عند معبر بيت حانون في شمال القطاع. يومها، فجّرت حزامها الناسف وسط مجموعة من جنود المعبر، ما أدّى إلى مقتل أربعة جنود وإصابة 10 آخرين. قالت ريم في وصيتها «من أرحامكنّ يا نساء الأمة، سيخرج الأطفال الذين سيعيدون مجد هذه الأمة، يكتبونه بدمائهم وأشلائهم، من أطفال هذه الأمة سيخرج من تربّى على رمي الحجارة ومواجهة الدبابات بصدره العاري». وأضافت: «بعد استشهادي غداً بإذن الله، ستسمعون كلاماً كثيراً عن أنّني ألقيت نفسي في التهلكة، وقد يخرج من يقول عنّي مُنتحرة، وقد يخرج من يقول عني حمقاء تركت أبناءها، ولم ترعَ حرمة زوجها وأولادها، ولهؤلاء أقول: دعوكم من لحمي المسموم ويكفيكم الفُتات الذي يلقي به الحاكم إليكم لتأكلوه والنفايات التي تربّون عليها أولادكم».
شكلت عملية رياشي مفاجأة للعدو. بحسب مسؤولة دائرة العلاقات الوطنية في دائرة العمل النسائي في حركة «حماس» كفاح الرملي، أتت هذه العملية كامتداد لدور المرأة الفلسطينية منذ بدء الاحتلال البريطاني، إذ كانت تساعد المجاهدين وتمدّهم بالمال والسلاح، ولم ينتهِ هذا الدور بتنفيذها الكثير من العمليات الاستشهادية.
يتخذ دور النساء في العمل المقاوم في فلسطين أشكالاً عدة، من حماية المقاومين وإيوائهم، إلى التحاق عدد كبير منهن بالأجهزة العسكرية للفصائل، والقيام بعمليات عسكرية. مع تزايد وتيرة الاقتحامات لساحات المسجد الأقصى، وسعي الاحتلال إلى تهويده في عام 2010، قامت النساء بحماية الأقصى عبر الرباط، حيث لازمنَ المسجد وباحاته بشكل دائم. كن يبدأن رباطهن من ساعات الصباح الأولى قبل موعد الاقتحامات، وإذا أقدم الاحتلال على اقتحام باحات المسجد، تعلو هتافات المرابطات وتكبيراتهنّ، وتبدأ معركة بينهن وبين جنود الاحتلال. مع الوقت، تناقص عدد المقتحمين تدريجياً، وارتفع عدد المرابطات، خصوصاً مع اعتمادهن أساليب التخفّي لدخول المسجد، ومجابهة الاقتحامات، حتى اشتعلت انتفاضة السكاكين، ما أخاف المحتلين، لينخفض عدد المقتحمين إلى أقل نسبة في عام 2016.
أمام سؤال يتعلّق بمشاركة النساء في القتال مع «القسّام»، يواجهه السؤال الأهم: لمَ لا تلعب النساء دوراً أكبر مع «القسّام» وكل حركات المقاومة؟ مع انتشار حركات المقاومة ذات الطابع الإسلامي، يُعتبر الدين عائقاً أمام انخراط النساء في القتال، والإشارة إلى النظرة الدينية للمرأة. وفي حالة «القسام»، يؤخذ الدين ورقة من قبل الغرب، للترويج لسرديّة أنّها تنظيم مطابق لـ «داعش». لكن لا رادع دينياً للنساء من القتال، في وقت هو واجب على الرجال، والنساء يقاتلن عند الضرورة.
في التاريخ الإسلامي قصص لنساء مقاتلات، أبرزهن خولة بنت الأزور، التي تعتبر من أشجع نساء عصرها. هي ابنة قبيلة كندة اليمنية التي شاركت بكثافة في الفتوحات الإسلامية. وهبت خولة حياتها للجهاد بين صفوف المسلمين، وكانت في صفوف المقاتلين في غالبية فتوحات الشام. ظهرت شجاعتها حين واجه المسلمون جحافل الروم قبل معركة أجنادين في فلسطين. في تلك المعركة، أخفت خولة شخصيتها تحت اللثام، وتقدّمت نحو صفوف الروم بجرأة، ولعبت دوراً أساسياً في إشعال همم المقاتلين، خصوصاً بعدما كشفت هويتها بطلب من خالد بن الوليد.



الشهيدة سناء محيدلي

لدى أسرها مع عدد من النساء، حرّضتهن على قتال الحرّاس والتحرر من الأسر، قائلةً: «يا بنات العم إن الريح مواتية وإن فرصة الخلاص لتبدو لنا، فها قد حان وقت العمل وإن الموت لأشرف لنا من فضيحة تلحق بنا في آخر الزمان. علينا أن نحمل حملةً صادقةً تذهل العدو، فننجو أو نستشهد في سبيل الله. خذن أعمدة الخيام والأوتاد في أيديكن، ولنحمل معاً على هؤلاء الحراس، ولنتماسك ولنتكاتف، ولا تكن بيننا ثغرة ينفذ إلينا منها أحد، أشددن معي، والله معنا والله أكبر».
يتخطّى النقاش الإطار الديني، ليذهب إلى تركيبة المجتمعات المولّدة لكل حركات المقاومة. وعند الحديث عن النساء في صفوف المقاومة اللبنانية والفلسطينية، تتوالى أسماء مقاومات ضمن صفوف حركات وأحزاب يسارية وقومية عربية، من سهى بشارة، ولولا عبود، وليلى خالد، وسناء محيدلي، وكفاح عفيفي، وكثر غيرهن. حتى ضمن حركات المقاومة العلمانية، لا يغيب التعجّب والانبهار بدور النساء في القتال وخلفياته، رغم أنّ الجميع يعاني من الاحتلال. في الحرب الحالية على غزة، استشهد أكثر من أربعة آلاف امرأة، وبالتالي يفترض بمقاومة المعتدي أن تعني الجميع، من دون الحاجة إلى الانبهار. لكن الأدوار الجندرية وضعت النساء في إطار «ضعيف» في محاولة دائمة للبحث عمّن يحميهن من الذكور، على الصعيد الخاص من أب وأخ وزوج وابن، وعلى الصعيد العام من زعيم أو رئيس أو قائد أو مناضل. من هنا يشكّل انخراط النساء في القتال تحدياً مزدوجاً للاحتلال والنظام الأبوي، وأدواره الجندرية.
لا تصالح حقيقياً مع النساء المقاتلات، إذ يُنظر إليهن على أنهن نساء يفقدن صفات أُعطيت لهن اجتماعياً، من الأنوثة والرقة والطيبة والحنان، واستبدلنها بصفات الذكورة، من القوة والشجاعة والبطولة، إلى حدّ وصفها بـ «إخت الرجال».
ورغم أنّ انخراط النساء في الكفاح المسلّح هو فعل نسوي، إلا أنّه يتعرّض لانتقادات من قبل النسويات أيضاً، وتحديداً النسوية البيضاء، اللواتي يعتبرن الحروب تجسيداً للذكورة الهشة وفائضاً من هورمون الذكورة. هذه المقاربة التي تصل إلى حدّ العداء مع الرجال، تُفرغ الواقع من أبعاده السياسية وأطره التاريخية، لتقدّم تحليلاً سطحياً لأسباب الحروب ومحرّكاتها، وبالتالي تصبح النساء المقاتلات هنا شريكات في القتل و«إجرام» الرجال.
تخلق هذه النساء، خصوصاً مَن هنّ في الصفوف الأمامية، حالة إرباك في تعامل وسائل الإعلام معهن وفي تقديم قصصهن، فيذكر هذا الإعلام حالتهن الاجتماعية وعدد أطفالهن، وتبديتهنّ القتال على حسّ الأمومة. كما تختلف طريقة التعامل بين المقاتلات بحسب نوع المعركة، فأن تحملَ السلاحَ بوجه احتلال يضعها في موقع بطولة، في وقت تُصبح فيه تلك التي اختارت القتال في حروب داخلية أو انقلابات، متهورةً ومجنونةً وضحية أجندات.
يتخطّى النقاش الإطار الديني، ليذهب إلى تركيبة المجتمعات المولّدة لكل حركات المقاومة


في غالبية الحروب، تُستبعد النساء من الجيوش، كما يغبن في عملية التوثيق التاريخي، ويتلاشى دورهن، وإن كن يمثلن نسبة صغيرة من المقاتلين، ولكنهن شغلن مناصب عديدة على صعيد القتال واللوجستيات والمهمات التكنولوجية والديبلوماسية، كما لعبن دوراً بارزاً في الاستخبارات والتجسس.
في ثورة الجزائر، مُنحت النساء أدواراً خطيرة، ولكنهن حُرمن من حقوق المحاربين القدامى ورواتب التقاعد. وبعد الثورة البلشفية، ورغم كل الأدوار الأساسية للنساء، كادت أن تغيب قصص الثائرات لولا عمل «جيناديل» (القطاع النسائي في الحزب الشيوعي السوفياتي) للتذكير بدور النساء، والإشارة إليهن بالأسماء ودور كل واحدة منهن خلال الثورة.

في ثورة الجزائر، مُنحت النساء أدواراً خطيرة، ولكنّهن حُرمن من حقوق المحاربين القدامى


الحجج البيولوجية التي تقول إنّ كتف الرجل تطوّر بشكل جيد لإطلاق الصواريخ، والذكورية التي تقول إنّ هورمونات النساء تجعلهن متقلبات وأكثر حساسية وبالتالي لا يصلحن للقتال، والسردية التي تقول إنّ النساء صانعات السلام، تنهار كلها أمام العنف، فهو لا يقابَل إلّا بعنف، والفصل بين الجنسين لم يجلب يوماً التنوير والتقدمية والسلام. تخاف الأنظمة معارضيها وكل من يخرج من تحت عباءتها، والاحتلالات تريد القضاء على كل مقاوميها، فكيف الحال بفئة هُمِّشت منذ بداية عمليات الإنتاج الاقتصادي وظهور المال والملكية، وقررت فرض حقيقتها على السلطة الأبوية الرأسمالية والدينية؟
إذا كان ملثّم «القسام» امرأة ــ سنصدّق أنّه امرأة ونريد أن يكون امرأة ــ فإنّها واحدة من نساء كثيرات شاركن في القتال والنضال في الثورات وحركات المقاومة، وكنّ البطلات المجهولات والمُجهَّلات. بعضهنّ استشهد على الجبهات، وأخريات أُسرن، وشاركن في التحرير والنصر، وكنّ مجداً لنا، لبنات جنسهن، لأولاد جلدهن، لكل مشارك ومعنيّ بالقضية الفلسطينية، وكل نضال ضد أي احتلال، وكل أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.