«من مدينة الشهداء، ومن عاصمة الدنيا منذ فجر يوم السابع من أكتوبر المجيد، ومن قلب المقاومة والتحدّي، مدينة الكرامة والعزة... غزة، أحدثكم اليوم». هكذا تبدأ رواية «المسافة صفر» الصادرة قبل أيام في تونس عن «بوب ليبرز». رواية مشتركة بين سبعة كتّاب هم: جاسر عيد، زياد بوشوشة، سامي المقدم، عاطف الحاتمي، طارق اللموشي، مالك بن عزالدين ومنصور شلندي. الرواية مجموعة من الحكايات تحت القصف لشخصيات من غزّة، وقالب الحكايات ريبورتاج صحافي يترك هذه الشخصيات تتحدّث عن معاناتها و«ظروف الحصار غير الآدمية كانت تطبق على أنفاسي وأنفاس كل سكّان غزة، إلا أنني كنت أنسى كل ذلك حين أحاور تلميذاتي حول الحرية والوطن وتحدي ظروفنا القاتلة» كما تتحدّث رهف عزّام إحدى شخصيات الرواية. سميح السراج، لينة يعقوب، خليل الحسيني، قاسم الجعبري، نانسي زين، نوح حمايدة، محمود عليان... هذه شخصيات الرواية التي تلتقي في تفاصيلها، وإن اختلفت الأسماء. ويبدو أن كتّاب الرواية السبعة، تعمّدوا عدم توضيح حقيقة هذه الشخصيات وما إذا كانت حقيقية أم متخيّلة. «المسافة صفر» لون جديد من الكتابة الروائية تصوّر حصار غزّة وأهوال القصف والقتل اليومي للأطفال وتدمير المستشفيات، وقد أفاد الكتّاب من مئات التقارير الصحافية التي تقدّمها وسائل الإعلام رغم كل التعتيم الإعلامي الذي يمارسه كيان الاحتلال حتّى تكون الجريمة بلا شهود. هذه الرواية المشتركة تُعدّ تجربة نادرة، إذ إنّها المرة الأولى التي يلتقي فيها سبعة كتّاب شباب في عمل أدبي واحد كُتب تحت وطأة الإحساس بالعجز عن نصرة الفلسطينيين الذين يتعرضون منذ شهرين لإبادة جماعية وتهجير قسري من بيوتهم المهدّمة. لكل شخصية من شخصيات الرواية حكاية تسردها، وتلتقي كل هذه الحكايات في وصف ما يحدث اليوم في القطاع. من خلال الرواية، نتعرّف أيضاً إلى معاناة المعلمين والعاملين في المستشفيات من أطباء وممرضين، والأطفال الذين اجتُثّت براءتهم واكتسبوا نضجاً مخيفاً لأي شخص يسمعهم. «النضج المبكر تجاوز الملامح ليسكن الروح» هكذا تتحدّث نانسي زين. لقيت الرواية رواجاً منذ طرحها في المكتبات، وخصّصت نسبة 25 في المئة من عائداتها لدعم المجهود الوطني في التبرّع لسكّان غزّة الذي يرعاه الهلال الأحمر التونسي. هنا فصل من الرواية تسرده شخصية خليل الحسيني


أنهى قاسم حكايته والتفت إليّ كأنه ينتظر تعليقاً ما من قبلي، ففكّرت قليلاً قبل أن أسأله:
- لقد غيّر حبك لرغد مجرى حياتك، وغيرت هي أيضاً نظرتك إلى الأمور، فأصبحت ترى في المقاومة المسلّحة السبيل الأنجع لدحر المحتل، لكن مع كل الذي يحدث الآن من قصف وتجبّر للآلة العسكرية الإسرائيلية، ألا تغيّر رأيك؟ ألا تظنّ أنّ التعريف بنُبل القضية في الغرب أكثر نجاعةً من أن ترمي المقاومة بالشعب في أتون لا قبل له بها؟ حرب لا قبل له بها.
- لا تسقني ماء الحياة بذلّة، هذا ما قاله عنترة منذ قرابة 1500 سنة، وكلماته تلك لا تزال تصلح حتى يومنا هذا ربما لا تجاري قوتنا قوة العدو الآن، لكن العالم أجمع لن يفهم أبداً أي لغة سوى لغة القوة، قد جرب السياسيون سلام الضعفاء، ولم يقدنا إلا إلى المهانة تلو المهانة، قد نخسر شهداء الآن، لكن العدو لن يستطيع قتل كل الفلسطينيين، وستولد بالتأكيد من رحم هذه الأرض أجيال أخرى تحمل لواء هذه القضية فما ضاع حق وراءه طالب.
نظرت في عينيه الدامعتين من فرط التأثر وأنا أسأله من جديد
- أما زلت تحبها؟ أقصد رغد..
ضرب على صدره في قوة قائلاً:
- هذا الصدر خُلق ليحمل حبّها وحب هذا الوطن سوياً حتى آخر نفس، وحتى ما بعد المسافة صفر.
لم أعد أفهم هؤلاء القوم وهم يصرّون على ذكر المسافة صفر في كل لحظة؟ إن كانت المسافة صفر هي المسافة التي يُقتل فيها الإنسان من دون أن ينقذ نفسه أو يدافع عن نفسه وتستعمل الآن كرمز لقدرة المقاومة على الوصول للصهاينة حتى وهم داخل حصونهم، فما علاقة هذا بحكايات هؤلاء الأشخاص؟ لم يكن هناك وقت كافٍ لمناقشة هكذا أمور، لذا التفتت للشيخ الطاعن في السن الذي كان واقفاً كجبل كأنّ السنين لا تؤثر في قدرته على الاحتمال لأخاطبه.
- ماذا عنك أيها الشيخ الجليل؟ هل ستروي لنا حكايتك؟
تقدّم وهو ينظر في عينيّ مباشرة، ما اضطرني لخفض عينيّ ليخرج صوته عميقاً دافئاً يفرض الاحترام والخشوع.
من الواضح أنني أكبركم عمراً اليوم. أنا أكبر حتى من هذا الكيان الغاصب. في الحقيقة ولدتُ ثلاث مرّات، ولستُ أدري بأي معجزة بقيت حياً اليوم، وقد تجاوزت الثمانين بعام.
ولدتُ في المرّة الأولى يوم الرابع من كانون الثاني (يناير) عام 1942 في قلب أحداث الحرب العالمية الثانية التي لم تكد تنتهي حتى كشّر الصهاينة عن أنيابهم، مستغلّين المحرقة. تعاطف العالم معهم لما عانوه على يد النازيين.
ولدت للمرّة الثانية يوم العاشر من نيسان (أبريل) 1948 ولذلك قصّة. كان ذلك في قرية مُحيت ولم يعد أحد يذكر اسمها تُدعى «دير ياسين».. نعم.. أرى تلك الارتعاشة في جانب فمك.. وأنت.. عيناك تتّسعان في فهم.. هذا عظيم، فاسم القرية ما زال يرنّ قوياً في وجدانكم.
نعم أنا أحد الناجين من مذبحة دير ياسين. داهمنا الصهاينة في ظلام الليل، وقضوا على الجميع. هكذا بكل بساطة، بكلّ برود، شُطبت عائلات كاملة من التاريخ بينما غرقت جثثهم الممزّقة في مستنقع في الدماء، نحو ستمائة شخص استُشهدوا بلا ذنب.
أذكر أنّ أبي قد أخفاني في البئر المهجورة، التي لم تكن تتّسع إلا لطفل في حجمي للأسف، وأمرني بعدم الخروج مهما كان الثمن. لن أنسى أبداً النظرة الملتاعة الأخيرة التي ألقاها عليّ ودموع أمّي وهي تغلق عليّ البئر. كنت أسمع انفجارات القنابل اليدوية والصرخات ودوي الرصاصات. حتى اليوم، تتردّد هذه الأصوات في ذهني واضحةً صافيةً.
في الصباح استيقظت ملاحظاً أنّ سكوناً رهيباً يخيّم على المكان. أزحت الغطاء وغادرت البئر بوجه لوّثه العرق والغبار. بضع خطوات كانت كافية لأكتشف ذلك الجحيم.
كنت في السادسة من عمري آنذاك، لكنّ المشهد انطبع في أعماقي إلى الأبد. رائحة الدم... الأشلاء... البطون المبقورة. وقفت مشدوهاً. كنت الناجي الوحيد، كأنني بُعثتُ من بين الموتى.
هربت. ركضت بلا هدف. المهم أن أبتعد عن هذا المكان. لم أدر كم مرّ من الوقت والدموع تغرق وجهي مشوّشة رؤيتي.
لكنني ارتطمت بجسد بشري، فأطلقت صرخةً مذعورةً. شعرت بنفسي أرتفع عن الأرض وبصوت حانٍ يهمس:
- اهدأ يا بني. أنت في أمان.
استكنت على الفور. كان ظهور هذا الشخص يعني أنني ألتقي بالحياة من جديد. أنني ولدت مرة أخرى.
لم تتوقف المذابح. علمتُ بعد ذلك أنّ مجموعة من الصهاينة طلبوا دخول قرية ناصر الدين، متنكّرين في هيئة عرب، ثم قاموا بقتل جميع الأهالي. هاجمت دباباتهم في ما بعد قريةً صغيرةً تدعى بيت داريس، وأبادوا الجميع. بعد شهرين، قتلوا خمسمائة شخص احتموا بمسجد في اللد في تشرين الأول (أكتوبر)... مذبحة الدوايمية... كل هذا عام 1948 فقط.
مرت السنوات وتتالت مذابح الإسرائيليين، بينما يشيح العالم عنّا بوجهه. اضطررت للانتقال إلى مصر التي أمضيت فيها سنوات مراهقتي وشبابي إلى أن تخرّجتُ هناك كممرض. تعرّفتُ آنذاك على معلّمة مصرية همتُ بها حباً، فتزوّجنا وأنجبنا صبيّةً في جمال القمر، واستقرّينا في محافظة الشرقية عام 1970، والتحقت ابنتنا «مايا» بمدرسة «بحر البقر» حيث تدرّس زوجتي.
لكن كما تعلمون جميعاً، قام الإسرائيليون بقصف هذه المدرسة في شهر نيسان من العام نفسه، وفقدتُ بضربة واحدة زوجتي وابنتي وجزءاً من عقلي.
لستُ أدري كيف مرّت السنوات العشر وأنا أعيش كالشبح في مصر، في منزل كان يموج حياةً صار أشبه بقبر قديم. في الأثناء، كنت أسمع بالجرائم الصهيونية التي ازدادت بعد حرب أكتوبر 1973 كأنهم يحاولون نسيان الهزيمة بالانتصار على شعب أعزل لا حول له ولا قوة. لم أعد أرغب حقّاً في الحياة، فعدتُ عام 1980 إلى غزّة لأعمل كممرض، منتظراً اليوم الذي سيقصفون فيه المستشفى على رأسي كي ألتحق بزوجتي وابنتي.
ثم جاء عام 1982 الرهيب. عام لا يُنسى، هندس فيه الإسرائيليون مذبحتَي صبرا وشاتيلا حيث قُتل أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة فلسطيني على يد قوات «الكتائب» بتخطيط إسرائيلي.
هناك القليل من الأطفال الذين نجحوا في الفرار من المذبحة منهم «خليل». عندما رأيته للمرة الأولى في مستشفى غزة، كان يحمل نفس النظرة الذاهلة التي كنت أحملها أنا عندما فررتُ من المجزرة. كان في السادسة من عمره تقريباً.
تقدمت نحوه وحملته. استكان الصغير بين ذراعي، ثم لفّ يديه الصغيرتين حول عنقي. ضممته وتناثرت دموعي. شعرتُ أنني أواسي ذلك الصبي الذي نجا من مذبحة دير ياسين. كان هذا الطفل يشبهني إلى حدٍّ مريع. لهذا كنت أفهم جيداً كل ما يشعر به. ثم خُيّل إليّ أنني أضمّ إليّ «مايا».
كنت في الأربعين عمر النبوّة، عندما أتى هذا الطفل كأنّه معجزتي الخاصة. كان يحمل حقيبة ظهر صغيرة، زرقاء بلون السماء، لا بد من أنه جمع فيها حاجياته الأساسية. لم يكن الطفل يتحدث على الإطلاق. رأيت في ما بعد صوراً لمجزرة صبرا وشاتيلا الرهيبة، وأدركت أنّ الهول الذي رآه الطفل المسكين كفيل بإفقاده قدرته على النطق.
حاولت استدراجه للحديث لكنني كنت أفشل في كل مرّة. حتى اسمه استنتجته من سلسلة ذهبية كان يرتديها، نقش عليها «خليل».
كان يولي حقيبة ظهره الزرقاء كل عنايته يستخدمها عندما ينام كمخدّة ولا يسمح لأحد بالاقتراب منها. لاحظت أنّ قاع الحقيبة كان ملوّثاً بالدّماء وعبرت ذهني أكثر الأفكار جنوناً عندما تذكرت أن كل ضحايا المخيمين ماتوا ذبحاً. هل كان يحتفظ هنا برأس مقطوعة؟ والده، والدته، صديقه؟ لو كان هذا صحيحاً، فكيف لم تنتشر رائحة العفن بعد كل هذه الأيام؟ نفضت تلك الأفكار عن رأسي، واكتفيت بمتابعة الصغير. كانت عيناه في كلّ مرّة، تتأملاني في عزم وتصميم كأنه يودّ إبلاغي رسالة ما.
في تلك الليلة غرقت في كابوس غريب. استعدت لحظات منسيّة من ليلة المذبحة. البئر المهجورة... الظلام... رائحة الرطوبة... صوت الحشرات التي تجول بحرّية على جدران البئر... الصرخات والانفجارات القادمة من بعيد... وجسدي الصغير الذي يرتعد...
فجأة شعرت أنني لم أكن وحدي. كانت هناك كتلة من الظلام في مواجهتي تماماً. شخص جالس في مواجهتي مباشرة. ينظر إليّ في تأمل. شعرت ببرودة في أطرافي.
- من أنت؟
لم تجبني سوى حُجب الظلام. لكنني كنت واثقاً أنّ شخصاً ما كان هناك. أكاد أسمع صوت أنفاسه المنتظمة.
ثم أفقت.
أفقت لأجد نفسي في ظلام حجرتي. التيّار الكهربائي مقطوع منذ أيام هنا في غزّة. لكن على ضوء القمر الشاحب، لاحظت ظلاً جالساً في ركن الحجرة. لا يتحرك لا يتنفّس.
تجمدت الدّماء في عروقي. كنت أشعر أنني لا أزال أعيش نفس الكابوس. فقط خرجت من ظلام البئر إلى ظلام الحجرة، وذلك الحضور الثقيل لازمني إلى هنا. ذلك اليقين أنني لست وحدي.
ثم سمعت ذلك الرنين، صوت معدني شبيه بصوت ارتطام قطع نقود في صرّة مال. صوت مكتوم لكنّه مميّز. ثم استطال الظلّ وانسحب إلى الخارج في هدوء وذلك الصوت المعدني يتردّد في سكون الليل.
نهضت في حدّة لألمح «خليل» يبتعد في ظلام الليل مرتدياً حقيبة ظهره. كان الرّنين قادماً من هناك. كنت واثقاً من ذلك.
ما الذي كانت تحتويه تلك الحقيبة؟
لم أدر حينها.
اختفى «خليل» بلا أثر حتى أنني اعتقدت أنّ كل ما حدث كان وهماً.
مرّت السنوات وازداد الصهاينة وحشية وجنوناً بعد الانتفاضة عام 1987. سنوات دامية مزقت شعبنا ونشرت فينا اليأس والإحباط، لكننا بطريقة ما، كنا نحوّله إلى حماس، إلى مقاومة، إلى أمل. لم أنس المذابح في حق شعبنا. هي محفورة في ذهني اسماً اسماً... قريةً قريةً. أنا الذاكرة الحية لهذا الوطن البائس. رشمت كلّ التواريخ بنصل السكين على جلدي حتى لا أنسى. انظروا أنا كتاب مفتوح.
في كل هجوم على غزة، كانت زوجتي وابنتي تزوران أحلامي. كانت «مايا» تلوح بيدها الصغيرة هاتفةً «بابا».. كم اشتقت إلى هذه الكنية. كنت «بابا» لسنوات ستّ كانت بلا شك الأجمل في حياتي. كنت أباً وزوجاً. وأنا اليوم أقرب إلى شبح. ككل سكان غزة، ميّت مع تأجيل التنفيذ.
في أحلامي، كانتا تبتسمان وكنت أستيقظ لأجد وسادتي مبلّلة بالدموع، موقناً أنني سأستشهد وألتحق بهما.
لكن هذا لم يحدث.
لم أر «خليل» من جديد إلا في عملية «بقعة الزيت أيام كانون الأول (ديسمبر) 2008 حين قصف الإسرائيليون غزّة على مرأى ومسمع من العالم أجمع. هجوم صاروخي غزير دكّ المدينة دكّاً.
تسألونني كيف تعرّفت إليه بعد هذه السنوات؟ لأنّ الطفل لم يكبر. كان يجول هناك بين أشلاء الجثث، بنفس ثيابه وبحقيبة ظهره الزرقاء الصغيرة. لم أصدّق في البداية، ثم تأكّدت أنّه هو. أصابني المشهد بالذهول. الطفل لم يكبر بعد مرور ربع قرن. كان يدور بنشاط وينحني على جثة ليقتلع منها شيئاً ما يلقيه في حقيبة ظهره، فأسمع الرنين المميز.
تغلّبت على ذهولي واتجهت نحوه بخطوات حازمة، لكنه رمقني بنظرته العجيبة ثم اختفى. حاولت تقصّي أثره. كان الرّنين يصل إلى مسمعي من بعيد وسط الخرائب. كنت واثقاً من أنّها لم تكن هلوسة. وأنا أبحث عن الطفل، سمعتُ صوت شيء معدني ثقيل يرتطم بالطريق المبلّطة ووقع خطوات طفولية تبتعد بسرعة. لمحتُ الشيء الأسود الملقى على الأرض وانحنيت لالتقاطه. كان مفتاحاً عتيقاً، ضخم الحجم من الطراز الذي يعلّقه المهجرون من ديارهم في أعناقهم.
تأملت المفتاح الحديدي بزخارفه القديمة. إذن فقد كان هذا ما يجمعه الطفل من الجثث. كانت حقيبته الصغيرة تمتلئ بهذه المفاتيح. لكن لماذا؟ لأي هدف؟
وقفت في منتصف الخرائب وقد فقدت أثر الطفل تماماً، وفجأة شعرت بموجة تضاغط تُلقي بي بعيداً وصوت انفجار صمّ أذني.
ثم ساد الظلام.
كنت من جديد في البئر المهجورة، مع ذلك الشخص أو ذلك... الشي الشيء. كنت أرتعد. تحرك الشيء في مواجهتي وشعرت بأنفاسه. تجمدت أطرافي.
في عقلي الصغير، كان لا بد من دفع ثمن الأمان. لا بدّ من عقد صفقة مع رفيق الظلام حتى لا يؤذيني. في الخارج، كانت الصرخات تملأ أذني، لكنني حاولت تجاهلها. سأمنحه كل ما لديّ. وهكذا انتزعت السلسلة الذهبية التي تحيط بعنقي ومددتها وسط الظلام. ستكون هذه السلسلة نذراً... قرباناً. شعرت بأصابع باردة تنغلق عليها، ولم تكد تلامس أصابعي حتى فقدت الوعي في البئر.
عندما استيقظت، كانت النيران تشتعل حولي. القصف من جديد. نهضت في تهالك مسترجعاً تلك التفاصيل التي غابت عن عقلي. تذكرت السلسلة الذهبية التي كنت أرتديها صغيراً وتذكرت أنني فقدتها في تلك الليلة.
مرت ستون سنة كاملة على هذه الذكرى.
غابت عن ذهني لمدة ستين عاماً ثم استيقظ جانب مظلم من عقلي.
في ذلك اليوم المشؤوم، تركت جزءاً منّي في تلك البئر. تركت الطفل الذي كنته
أفقت من شرودي والتفتت حولي مدركاً أنني نجوت بمعجزة من الصاروخ الإسرائيلي.
تواصل القصف إلى منتصف 2009 ولم يظهر الطفل إطلاقاً.
لكنني رأيته مجدداً.
أكتوبر 2023.. طوفان الأقصى.. طوال ثمانين عاماً عشتها على هذه الأرض، لم أشعر بالأمل قوياً ونابضاً كهذه المرّة. قطع عنّا الصهاينة الكهرباء والماء وأغلقوا الطريق في وجه الإعانات. لكنني كنت سعيداً. كنت مستعداً للاحتفال. للرقص. مثل تلك الليلة التي داهمنا فيها الصهاينة في دير ياسين، كان الجميع يحتفل بزفاف أحدهم، ويرقصون الدبكة.. خُلق هذا الشعب ليرقص على الخرائب. هززت جسدي الهزيل ورقصت. رقصت منتشياً بانتصارات المقاومة.. يا زوربا رقصتك الشهيرة لن تعادل خطوةً واحدة، سكرانة منتشية بعمليّة الطوفان.
لكن الفرحة لم تتجاوز سويعات. ففي تلك الليلة، قصفوا المستشفى بنفس الدم البارد الذي ارتكبوا به المذابح، بنفس الشماتة والوحشية. خمسمائة ضحية بضربة واحدة، أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال.
أحسست بالقهر وأنا أقف وسط الأنقاض المشتعلة. وهناك رأيته. كان منحنياً يبحث عن المفاتيح. لم يعد منها الكثير. ارتداها الأبناء والأحفاد وهدم البيت ليرتفع في مكانه آخر، وهم ما زالوا يحتفظون بها.
هذه المرة تبعت الطفل في حذر. كان يلتقط المفاتيح ويلقي بها في حقيبته يعمل بصبر وأناة كأنه قام بهذا عشرات المرات.
رأيته يتجه بخطوات سريعة نحو تل قريب فتبعته بما يسمح به جسمي العجوز. رأيته يوقد ناراً ويضع عليها آنية نحاسية التقطها من بين أنقاض منزل. اختبأت خلف حائط متهالك ورأيته يفرغ محتوى حقيبته في الآنية. مئات المفاتيح ترتطم بقاع الآنية مصدرةً ذلك الرنين المميز.
رأيت بعين الخيال المفاتيح تنصهر وتذوب، وتتخذ شكلاً ما عجز عقلي عن تصوّره. رأيت النيران تنعكس على ملامح الصبي الجامدة وهو يحرك الحديد الذائب بعود خشبي.
ثم انتزع السلسلة الذهبية التي تحيط بعنقه التي تحمل اسمي. الآن فقط أدركت ذلك. ألقاها وسط الحديد المنصهر. سكب الطفل محتوى الآنية على التراب ورسم حدود الكتلة الذائبة بالعود الخشبي ثم تركها تبرد، وأخرج في الأثناء علماً من حقيبته. كانت راية فلسطينية قديمة، فرشها على الأرض ووضع عليها الهيكل الحديدي الذي شكّله انصهار المفاتيح. لفّ الكتلة التي بردت بشيء من الحنان وسط القماش الملوّن بالأخضر والأحمر والأسود، فبدا كأنه يحمل رضيعاً حديث الولادة.
ثم التفت ناحيتي
التقت أعيننا وسرت في جسدي قشعريرة باردة. هذان العينان. هذه النظرة.
«في ذلك اليوم تركت جزءاً مني في البئر. تركت ذلك الطفل الذي كنته».
وها قد جاء بحثاً عني من جديد، مطالباً بالسنوات التي سُرقت منه.
أخيراً جاء الفهم... كاسحاً... شاملاً... عرفتُ من هو الصبي ولم يطاردني أنا بالذات.
أزحت الرداء عن الكتلة الملساء لأكتشف خريطة تحمل أسماء مدن فلسطينية صميمة بحروف ذهبية نتجت بلا شك من ذوبان السلسلة. كان سطح الخريطة برّاقاً إلى درجة أنني كنتُ أرى انعكاس الخراب المحيط بي بوضوح بكفاءة مرآة مصقولة.
رفعت الخريطة أمامي لأرى انعكاس وجهي، لكنّ وجهاً آخر ارتسم أمامي.
كانت مايا.
طفرت الدموع من عيني عندما سمعتها تردّد تلك الكلمة
- بابا.
لوّحت لي بكفّها الصغير قائلة:
- بابا، اشتقت إليك.
كيف لشيخ ثمانيني أن يكبت دموعه أمام ابنة لم تكبر. قلت بصوت ملتاع
- صغيرتي.
- لم تبكِ يا بابا؟ المفروض أن تكون سعيداً.
- أنا سعيد لرؤيتك.
رفعتُ بصري إلى الطفل. كان واقفاً يتأملني في اهتمام.
قالت مایا:
- لم تعد تلك المفاتيح تصلح يا أبي، فالبيوت إما هُدمت أو تغيرت أقفال أبوابها أو مات أصحابها. لكن هل تعلم شيئاً؟ ذلك بالضبط هو ما أثار طوفان اليوم. هذه المفاتيح شكلت خريطة جديدة، نقيّة، لأرض ستُسترجع حتى آخر شبر. كان حلماً فردياً، كل شخص يحلم بالعودة إلى بيته. لكنه اليوم صار حلماً جماعياً. حلم استرجاع أرض مسلوبة. لهذا انصهرت الأحلام الفردية في حلم واحد كبير من النهر إلى البحر، أرض الزعتر والزيتون لأصحابها.
كنت أتأمل حماسها وعينيها المتألقتين على السطح المصقول وهي تواصل:
- وهل تعلم ما هو الأجمل يا أبي؟ أن هذه الأرض تجمع الشهداء والأحياء على حد سواء، لأن الشهداء أحياء بينكم، لكنكم لا تعلمون ولهذا تراني وتستطيع مبادلتي الحديث، لأن هذه الخريطة التي تمثل الأرض تجمعنا بدورها.
متى اكتسبت ابنتي الصغيرة كل هذه الحكمة؟
التفتّ إلى الصبي بجانبي فابتسم لي وقال:
- حتى من اغتيلت سنوات طفولتهم، هم شهداء. جزء منّا استُشهد في ذلك البئر منذ سنوات. وها هو يرسم خريطة فلسطين الجديدة. رأيت صورتها تبتعد والمشهد خلفها يتّسع وهي تقول في حماس:
- انظر يا أبي... انظر.
ومن خلال السطح المعدني، رأيتُ مئات الأطفال. كنت أعرف العديد من هذه الوجوه. أبناء أصدقائي الذين استُشهدوا كانوا يجمعون المفاتيح بدورهم ويصهرونها، لتخرج مجسّمات خرائط فلسطين الحرّة. كانت تسمى فلسطين.
صارت تُسمّى فلسطين. وهكذا كانت ولادتي الثالثة، وها أنا ذا بفضلها بينكم الليلة.