قبل أن تحلّ مأساة غزة وتستحوذ على كامل الاهتمام وتوقف بيروت معظم النشاط التشكيلي، شهد لبنان في 2023 حركة معارض جيّدة ومقبولة إذا ما قيست بالأوضاع المأزومة في البلد، متجاوزةً بحدود معينة الواقع الصعب أكان في صالات العاصمة أو المناطق، كأنّ في الأمر تحدّياً للواقع بواسطة التعبير الفني. ولوحظت عودة فنانين مخضرمين من جيل سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت الذين أقاموا معارض قدموا فيها خلاصة تجاربهم السابقة. من أبرز المعارض التي يمتدّ بعضها إلى مطلع 2024، لفت المعرض التكريمي لإيلي كنعان في الصالة المخصّصة للمعارض في «الجامعة اللبنانية الأميركية» في بيروت، حيث لوحات كنعان الذي يشكّل حالة لونيّة مليئة بالحيويّة، وطبيعة دائماً ما جسّدها في لوحاته الزيتيّة الغنائية. واحتضنت «غاليري صالح بركات» معرض Beirut Octet لعفاف زريق التي قدّمت لوحات مائية تجريديّة لطبيعة مبهمة، غارقة في ضبابيّة التدرّجات اللونيّة واللطخات الداكنة ذات الخطوط النافرة، تكاد تبدو طفوليّة يمليها مزاج عفويّ خاص.
صوّر جيلبير الحاج زهور الأقحوان وبتلاتها التي ترمز إلى صمود الشعب اللبناني

وتحت عنوان «حديقة واسعة تمسك بسمائها بين أغصانها»، قدّمت ريما أميوني في «غاليري عايدة شرفان» (ستاركو)، أعمالاً ذات أحجام مختلفة يوحّدها المنظر الطبيعيّ والحدائق بألوان قويّة مدهشة فيما أقامت هَيْبَتْ بلعة بواب معرضها «إلهامات محلية» في Art On 56th (الجميزة)، وضمّ لوحات زيتيّة وأخرى كناية عن كولاج بأسلوب متقارب ذي مواضيع متنوعة قائمة على زحمة ناس في أماكن عامة متفرّقة. وتحت «زهور ملاعب»، قدّم جميل ملاعب في «غاليري جانين ربيز» الكثير من الأزهار والأشجار والألوان التي تستفزّ العين، بقدر ما في ملوانته من غواية وفتون. وفي «غاليري تانيت»، صوّر الفوتوغرافيّ جيلبير الحاج في معرضه «الأرض مثل الطفل الذي يحفظ القصائد عن ظهر قلب» زهور الأقحوان التي استوحاها من قصيدة للشاعر النمسوي ريلكه. بالنسبة إليه، ترمز هذه البتلات إلى صمود الشعب اللبنانيّ ومقاومته، إذ كابد أزمة خلف أزمة وظلّ قادراً على شقّ الحواجز صعوداً مثل بتلات التوليب.
سامية حلبي وفريد حداد علقا لوحاتهما في فضاء «غاليري صفير زملر» حيث قدمت حلبي أعمالاً قديمة وحديثة. هذه الفنانة المقدسيّة يتميّز أسلوبها بضربات الفرشاة المبلّلة التي تكوّن المشهد الطبيعي، ويكاد سكونه يكون مفقوداً ومتلاشياً. وفي أعمال لها، جسّدت مجازر كفر قاسم ودير ياسين، مؤكدة على تجذّر أصولها الفلسطينيّة في وعيها، فهي فلسطينية الانتماء، لبنانية التكوين، أميركية الإقامة. أمّا فريد حداد فقد جمع في «لزمن لبنان»، أعماله التي أنجزها طوال العقود الخمسة الماضية بين لبنان والولايات المتحدة، علماً أنّه انجذب في المرحلة الأخيرة إلى التجريد التجريبيّ وتميّزت أعماله بضربات الفرشاة السائلة التي تكوّن نسيجاً لونيّاً مثيراً.
بين لبنان وفلسطين والعراق وإيران، التقطت كورتني بونّو صورها التي عرضتها في «دار المصوّر» تحت عنوان «رسائل حب إلى الشرق الأوسط» كتجسيد لـ«الإنسانية والجمال في أماكن شبه منسيّة ومهملة ومفقودة».
ورسمت فاطمة الحاج احتفالية لونيّة آسرة في معرضها «نزهة في الطبيعة» الذي احتضنته «غاليري مارك هاشم»، فالطبيعة كانت مؤلّفة من الألوان ومشتقّاتها أكثر من العناصر أو المكوّنات. أما «شاعر الطبيعة» الفلسطينيّة واللبنانيّة مارون طنب، فشاهدنا أعماله في معرض استعادي احتضنته «دار النمر» حيث اللوحات انتمت إلى المرحلة الفلسطينية، وإلى جانبها لوحات ابنه فؤاد الذي حاكى أعمال والده بشبه تجريد ملوّن، ليمسي المعرض حواراً بين جيلين داخل خمس قاعات.
هشام طاهر جسّد آلام العراق في «غاليري عايدة شرفان» تحت عنوان «في صحتكم». معالجة «محليّة» متّصلة بالوضع العراقيّ المؤلم حيث الشعب المغلوب على أمره والغارق في الفوضى والأزمات من كلّ نوع ظلماً وفساداً وتنازعاً على السلطة بين أطيافه ومكوّناته. معرض ليلى جريديني في «غاليري جانين ربيز» أعطته عنوان filiation (نَسَب) واحتوى على خمسة أعمال من النسيج وثلاثة تجهيزات مكوّنة من النول والخيطان وثمانية عشر عملاً من النسيج والأكريليك. والأعمال كلّها بمثابة تكريم من الفنانة لإرث عائلتها التي امتلكت مصنع نسيج.
واختزلت خولة الطفيلي في لوحاتها الصغيرة والمتوسطة نبض الشارع، في بيروت وسواها، بين المدينة والقرية، ومنحتها عنوان «مربّع الحياة» لتعلّقها في النهاية على جدران مقرّ «جمعية الفنانين التشكيليين». ومن المحطات المهمّة التي شهدها 2023، معرض استعاديّ في «الجامعة اللبنانية الأميركية» في بيروت لروّاد شرّعوا الباب لمغامرة الحداثة وهم قيصر الجميّل، مصطفى فروخ، عمر الأنسي وصليبا الدويهي. رواد غطاس فنّان «المساكن الشعبيّة»، أقام معرضه في «إل. تي. غاليري» وتضمّن وجوهاً مشوهة منجزة بألوان صارخة تلائم صراخ النفس الموجوعة التي ينعكس وجعها الداخليّ على الوجه.
شهد 2023 غياب الـفنّانة العصاميّة الحرّة لور غريّب والنحات الجنوبي عزّت حمام وﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴّﺔ وعالمة النفس يولاند نوفل


تحت عنوان Breaking Point، احتضنت «غاليري جانين ربيز» معرضاً استعاديّاً للتشكيليّ اللبنانيّ هنيبعل سروجي، حوى أعمالاً تعود إلى التسعينيّات من القرن الماضي، وتحديداً إلى معرضه الأول في بيروت عام 1997. اشتهر سروجي باعتماد أسلوب خاص يقوم على الرسم فوق قماش غير معالج يعتبره الفنان «امتداداً لبشرته».
وفي الذكرى العاشرة لغياب أحد كبار أعلام الفنّ الكاريكاتوري (السياسيّ بشكل خاص) بيار صادق، صاحب الريشة الساخرة لعقود من الزمن، أقيم معرض في «قاعة مكتبة جامعة الروح القدس- الكسليك»، وضمّ مجموعة كبيرة من أبرز أعمال الفنان الراحل.
عن الاستعمار وسرقة الآثار والهوية والمقاومة، أقام الفنان ريان تابت معرضه في «غاليري صفير زملر». وضمن مناخات الحروب والاستعمار، قدّم رالف الحج معرضاً منحه عنوان «تاريخ ثلاث حروب» في «بيت بيروت» واشتمل على سبع لوحات رقميّة، فضلاً عن صور ونصوص توثّق لتجربة الحج الشخصية وذاكرته المتّصلة بعنف الحروب والمآسي التي اختبرها لبنان. وشهد 2023 غياب الفنان الكولومبي الكبير فرناندو بوتيرو الذي اشتهر بشخصياته المكتنزة والضخمة وألوانه النابضة، التي غالباً ما كانت تكتنف نقداً سياسياً واجتماعياً أو حسّ فكاهة لاذعاً. لكنّنا في هذه البقعة من العالم، سنظلّ نتذكّره بصفته رسّام الجرح الإنساني العميق، هو الذي وثّق الفظاعات الأميركية في «سجن أبو غريب» العراقي. أمّا لبنانياً، فشهد 2023 غياب لور غريّب (1931 - 2023)، الـفنّانة العصاميّة، الحرّة، المختمرة القدرات التشكيلية التي تتوازن فيها «الشطحة» الخياليّة والحرفيّة العقلانية والتخطيطيّة والتنقيطيّة. كما شهد غياب النحات الجنوبي عزّت حمام الذي أنجز مئات المنحوتات ذات الموادّ المتنوّعة، واتّسم أسلوبه بالتجريد التعبيري من دون أن يغفل الكلاسيكيّ والوجوه.
رحلت أيضاً الفنانة ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴّﺔ وعالمة النفس يولاند نوفل التي تميّز أسلوبها باعتماد الخرافة والسفر عبر الأحلام، وتعد أعمالها صفحات من حياة هانئة. وأخيراً، اختيرت الفنانة اللبنانية منيرة الصلح لتمثيل لبنان في «بينالي البندقية للفن المعاصر»، الذي سيُقام من 20 نيسان (أبريل) حتى 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024.