بغداد | تعبرُ الثقافة العراقية إلى العام الميلادي الجديد بخيط من التفاؤل والطموحات مع عودة الدعم الحكومي لفعاليات الثقافة المؤسّسية في ظل انتعاش أسعار النفط، ووفرة الخزينة المالية مع توجّه سخي في الإنفاق. هذا العنوان الأبرز لحصاد سنة شهدت عودة مهرجانات الشعر والمسرح والسينما التي تلقّت، كلها، دعماً من الحكومة، إذ كانت عبارة «برعاية دولة الرئيس...» تتصدر اللافتات التعريفية. الإنجازات الفردية على صعيد الجوائز والمسابقات، ظلت على الدوام بوابة لمشهد ثقافي منتج. غير أن تراجع حضور معارض الكتاب وتحديات ارتفاع أسعار الورق وغياب أسماء لامعة في الأدب والفن العراقيين، تركت ظلالاً كثيفة على المشهد الذي خالط الأمل فيه مرارة الفقد.لم يحدث شيء مفارق ثقافياً في 2023، عن السياقات التقليدية المستقرة نفسها منذ عقدين. لا ظواهر ولا أحداث مدوية. مضى وقت تكون فيه الثقافة مركزاً للأحداث. هي اليوم مكمّل لديكور يراد له أن يبدو جميلاً. لم يَظهر في عام 2023 مثقف يزعج النظام على رأي سارتر، ولا شاعر يطلق بيانات موت النقد. مرّ العام بلا عواصف ثقافية، نستثني من ذلك الضجة التي رافقت إصدار يوميّات يوسف الصائغ (1933- 2005) والاتهامات (الخطيرة) التي تضمنتها مقدّمة محقّق الكتاب ودفاع بعض الأدباء عن الصائغ.

مستشارية الثقافة
مع بدء العام الجديد، وتحديداً في 18 كانون الثاني (يناير) 2023، أصدر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أمراً بتعيين عارف الساعدي مستشاراً له للشؤون الثقافية. تلقت الأوساط الأدبية الخبر بترحيب، وعُدّتِ الخطوة بداية صفحة جديدة مع الملف الثقافي الذي دائماً ما عانى الإهمال والتهميش من الرئاسة العراقية. لاحقاً، بدأ المشهد الثقافي يلمس أثر هذه التسمية، فقد أسهم الساعدي في تسهيل عشرات أوامر الراعية الرئاسية لمهرجانات ومؤتمرات وقرارات تدعم العمل الثقافي في حالة غير مسبوقة منذ احتلال العراق عام 2003، تكلّلت بقرار السوداني، مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بتخصيص 13.5 مليار دينار عراقي لدعم الأدب والفنون. المشروع الطموح يغطي تكاليف دعم فعاليات ثقافية وأنشطة أدبية ومعارض فنية ومشاريع طباعة، فضلاً عن دعم قطاعات السينما والمسرح وأدب الطفل، مع رعاية خاصّة لـ «اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين». جلب المشروع السخي تساؤلات عن ضرورة مراقبة الأموال المصروفة بشكل دقيق وضمان إنفاقها على مشاريع جادّة، مراقبة مالياً، حتى لا تتكرر فضيحة مشروع «بغداد عاصمة الثقافة العربية» التي لا تزال أصداء مخالفاتها المالية تثير جدلاً واسعاً في المشهد الثقافيّ.

معارض الكتاب: انقسام وخفوت
بعدما كان العراق البلد العربي الوحيد الذي يملك سبعة معارض «دولية» للكتاب في السنوات الماضية، والرقم لا يدل على انتعاش سوق القراءة بقدر ما يعني انقسام مؤسسة الناشرين، تراجع حضور معارض الكتاب في البلاد وشهد عام 2023 بداية انحسار ظاهرة معارض الكتاب العراقية. بينما شهدت الأعوام الماضية إقامة معرضَين دوليين في بغداد وحدها، ومعرضاً في البصرة والنجف وكربلاء وأربيل والسليمانية، تقلص الرقم إلى أربعة فقط: معرض أربيل (نيسان)، معرض النجف (أيار)، معرض بغداد (أيلول)، معرض السليمانية (تشرين الثاني). وشهد عام 2023 حجب «مؤسّسة المدى» العريقة معرضها الأساسي «معرض العراق الدولي للكتاب» للمرة الأولى منذ انطلاقته. قرار لا يمكن قراءته إلا في ضوء تأثير انقسام مؤسّسة الناشرين في البلاد إلى مؤسستين: «جمعية الناشرين والكتبيين في العراق» و«اتحاد الناشرين العراقيين». وقد اشتعلت الخلافات بينهما أخيراً وتبادلا، مراراً، التراشق بالبيانات، لكن الخاسر الوحيد هو القارئ العراقي. فقد عزفت دور النشر العربية عن الحضور إلى العراق، وتراجعت المبيعات في ظل «تخمة» المعارض وتعدّدها، واضطر المنظمون إلى جلب مشاهير التواصل الاجتماعي والممثلين لبث الروح في الجسد الذي انحسرت عنه الحياة.
في خضم هذا المشهد الملتبس، استقبل شط العرب في البصرة سفينة «لوغوس هوب» أكبر معرض كتاب عائم بعدما طافت 160 بلداً حول العالم. عرضت السفينة أكثر من 5000 عنوان واستمر عرضها لأكثر من أسبوعين وتلقت حفاوة من أهالي المدينة النفطية وزيارات لمسؤولين وطلاب جامعة ومدارس، فضلاً عن إقامة عدد من الأمسيات الأدبية.

مهرجانات... مهرجانات
السمة الأبرز للمشهد الثقافي في العراق هو المهرجان. لا يزال العقل الإداري الثقافي ينظر إلى النشاط الأدبي أو الفني من نافذة المهرجان لا أكثر. هو غير مستعد للمغامرة في تنفيذ برامج خارج الصندوق. أيام معدودة ودعوة محدودة لأسماء تتكرر غالباً يشاركون في ندوات وأمسيات يقرؤون فيها جديدهم أو قديمهم لبعضهم. لذا كان عام 2023 حافلاً بمهرجانات لا تنقطع: «جواهريون»، «الأسبوع الأدبي»، «يوم الأديب العراقي»، «مهرجان الكميت»... كلها تدار من «اتحاد الأدباء والكتاب» في العراق أو فروعه في المحافظات. اللافت كان تأجيل أهم المهرجانات (المربد) إلى شباط (فبراير) المقبل بسبب الحرب على غزة بحسب بيان رسمي. من الجدير التنويه بـ «المشغل السردي الثالث» الذي أقيم في البصرة وقد كانت جلساته على مستوى مائز من الفائدة والجدّيّة. وقد أقامت وزارة الثقافة مؤتمرات مثل: «مؤتمر المكتبات العامة»، «مهرجان قصائد مغناة»، «أيّام السينما العراقية»، فيما كان «مهرجان بغداد الرابع للمسرح» على مدار عشرة أيام علامة فارقة في عام 2023 لما حققه من تفاعل طيب، فيما استضافت جمعية الفنانين «مهرجان كلكامش السينمائي».

نجوم آفلة
حمل العام المنصرم رحيل جملة من الأسماء الرفيعة التي ملأت العقود الماضية تألقاً وإبداعاً في الكتاب والتمثيل والغناء، فغادر عالمنا القاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي (1939 ــ 2023)، والكاتب الساخر خالد القشطيني (1929 ـ 2023)، والتشكيلي عاصم فرمان (1956 ـ 2023)، والمحقّق عبد الله السوداني، والفنان المسرحي محسن العزاوي (1939 ـ 2023)، والمترجم جلال زنگابادي (1951 ـ 2023) والكاتبة ابتسام عبد الله (1943 ـ 2023)، فيما ترجل المطرب المعروف ياس خضر بعد صراع مع المرض والشاعر الغنائي كريم العراقي والمطرب علي جودة. وشهد العام المنصرم حلول مئويّة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، إذ احتفل العراقيون فيها بإقامة احتفال مركزي في العاصمة دُعي إليه عشرات الضيوف من داخل البلاد وخارجها مع توجّه باحتفاء عامٍ بالملائكة في مدارس الدولة ومؤسساتها.

الجوائز الفرديّة الحصان الرابح
على صعيد الجوائز والمسابقات، خطف عراقيان «جائزة الشارقة للإبداع/ الإصدار الأول» وهما علي عواد عبد الله (الأولى في الرواية) وسلام جليل عبد الحسين (الثانية في الشعر)، فيما وصل الروائي أزهر جرجيس إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية. وحاز حسين هليل «جائزة الأدب الشبابي» في الشعر، وأمير رأفت في الرواية ومرتضى عودة في المسرح، وفاز علي الياسري بمسابقة «شاعر شباب العرب» التي أقامتها وزارة الشباب والرياضة.

الإصدارات اللافتة
واصلت دور النشر العراقية نشاطها اللافت ومشاركاتها في معارض الكتاب العربية. ورغم ارتفاع أسعار الورق الذي أسهم في انكماش السوق لمدة، واصلت الدور الأهلية منها تقديم أعمال عراقية وترجمات جديدة. من أبرز ما صدر العام الفائت كانت الأعمال الشعرية للراحل أحمد الصافي النجفي، وطبعة جديدة من أعمال نازك الملائكة عن «دار الشؤون الثقافية»، ويوميات يوسف الصائغ وديوانه الأخير «استيقظ يا يوسف». في جانب الرواية، أصدر مرتضى كزار عن «دار الساقي» رواية «هذا النهر يعرف اسمي». وأصدرت «دار الرافدين» رواية «غريزة الطير» لعبد الزهرة زكي، و«دار سطور» رواية «آخر المدن» لزهير الجزائري.

التشكيل... علامات عافية
وبدا مشهد التشكيل العراقي أكثر عافية وحيوية، فقد واصل حضوره المميز في معارض فردية وجماعية داخل العراق وخارجه، مؤكّداً على المكانة الخاصة للتشكيل العراقي بمختلف مراحله. وقد كان افتتاح «قاعة إيوان -مجموعة الإبراهيمي» من الأحداث الهامة ثقافياً لما تضمّنته من مقتنيات فريدة ومتنوعة شكّلت متحفاً مصغراً ضم أجيالاً عدة.
ومن المعارض المهمة التي شهدها 2023 معرض «عرقنة وأمركة» لهاشم تايه وياسين وامي، ومعرض النحت العراقي في بغداد، ومعرض «ثمانيون... جيل وذاكرة»، ومعرض «جنة عدن» لجملة من الفنانين، ومعرض «طبيعة عراقية» الذي أقامته «جمعية الفنانين التشكيليين» في بغداد، فضلاً عن مشاركات الفنانين العراقيين في عدد من بيناليات عالمية أقيمت في عواصم عدة، فيما فاز التشكيلي الرائد ضياء العزاوي بـ «جائزة النيل للمبدعين العرب».