الروتين والفراغ الإنساني، والمصير المحتوم. مفاهيم يحاول المخرج إبراهيم خليل، رصدها في تجربته المسرحية الأولى «الفيل يلي بالأوضة» على خشبة «مونو». يرمّم خليل علاقتنا بالأم، أو بالأحرى المدينة. ضمن قالب فني وكلاسيكي، يتخذ الذاكرة والنسيان محركاً أساسياً للّعب في النص وعلى الخشبة. تبدأ حبكة المسرحية من حيث تنتهي، فلا شيء متوقعاً مع النسيان الذي يُعد ثيمة العرض الأساسية. الأم (فاديا التنير) تعيش في شقة سكنية في بيروت. بدأت أخيراً تظهر عليها معالم «الخرف»، وفقدان جزء من ذاكرتها. يعيش ابنها فؤاد (علي السمرا) تداعيات هذا النسيان، ويبذل جهداً للتكيّف مع التغييرات التي تحصل داخل البيت. يحاول التواصل مع أمه بشكل أفضل، والاهتمام بتفاصيل حياتهما اليومية، واستكشاف سبل التعايش مع الواقع الجديد، وترميم العلاقة التي تذكّرنا في كثير من الأحيان، بعلاقتنا مع أمهاتنا، والخوف على مصيرهن وخوفهن علينا. تظهر الأم بتفاصيلها المعقّدة كافة، وذكرياتها المجمِّلة لحياة تعيسة عاشتها، في حين يواصل الابن سبر أغوار شخصية أمه وتدوين الأحداث التي مرّت بها، وتوثيق لحظاتها، خوفاً من الفقدان. تشبه هذه العلاقة مع الأم أيضاً علاقتنا بالمدينة التي تغيّرت ملامحها.
السينوغرافيا مقتضبة، مصنوعة من الخشب من الخام، وظّفها المخرج بأكملها، ولم يستعملها للتزيين أو بعث شعور الدفء فقط. القطع السينوغرافية مقسَّمة على شكل البيوت البيروتية، وطرازها، ولمساتها الأصيلة. المشهدية برمتها، تبعث شعوراً بالخوف من ذلك الروتين اليومي، الذي قد يكون، في يوم من الأيام، محتوماً. الاستماع إلى الأخبار، حياكة الصوف، تناول الأدوية، تحضير الطعام، ونفض الغبار. تحاول الأم تذكر أي شيء، «كيف يقفل الباب، من اليمين إلى اليسار، أم العكس؟» وتصر على ابنها، يومياً، لتعديل ساعة الزمن، ونفض الغبار عن الإطار الخشبي الفارغ. كلها أحداث روتينية داخلية، تُنذر بمعالم الخوف من الفضاء الخارجي، الذي نسمع عنه عبر بث مقاطع من نشرات الأخبار، ترتبط بالسياق السياسي الحالي، أو السابق. الخوف من الخارج، يُترجم على شكل جلسات مسائية، باردة وقاسية ومملة، مقابل جنون الحرب والأزمات السياسية. وعليه يمكن القول إن النص فيه تركيبات بسيطة وشفافة، ولا تحتمل تأويلات معقدة. تركيبات وُظِّفت في خدمة المعنى الأساسي الذي تكرّسه المسرحية برمتها.
في مسرحية «الفيل يلي بالأوضة»، يحمل الأداء التمثيلي تقلبات عدة. بالطبع، لفاديا التنير علاقة قوية ببيروت، حتى تكاد الشخوص التي مرّت في حياتها، تظهر في كثير من الأحيان في إيماءات وجهها، أو تعابير صوتها، أو انفعالاتها. وللممثل علي السمرا قدرات صوتية وجسمانية جيدة على الخشبة. لكن الأداء كان واضحاً أنه وليد لحظته، لأنه يعتمد على انفعال خارجي غير مرتبط بشعور دفين في أغلب اللحظات. يبدو واضحاً أن المخرج لم يفلح في إبراز قدرات الممثلين كما يلزم. الموسيقى، وكان أبرزها «الفصول الأربعة» لفيفالدي، لم تخدم اللحظات التي يتبناها العرض، لأن الخيار الموسيقي الكلاسيكي، يتناقض مع المفاهيم المعاصرة التي يطرحها العرض. كان مهماً بث موسيقى تحمل ثقل اللحظات، وقساوتها، على حساب خيار كلاسيكي جمالي. حتى إن هناك تساؤلات حول بث مقاطع من نشرات الأخبار (حادثة اغتيال العاروري، أو محاولة تشكيل الحكومة اللبنانية). على مستوى الأزياء المسرحية، أفرط المخرج في اختيار أزياء الابن المتحرر، الذي يرفض الزواج، ويخالف القواعد. رجح المخرج كفة الإبهار من ألوان ترابية، وموضة كلاسيكية، على حساب معالم الشخصية الحقيقية، مقابل الاختيار الصائب للأم التي ترتدي الثياب القطنية والشتوية، التي تحمل روائح أمهاتنا في هذه المدن. أما الإضاءة، فقد وظِّفت فقط للإعلان عن حلول الليل أو طلوع النهار، أو تجسيد نافذة، على العالم الخارجي، بشكل مباشر وواضح للعيان.
في المحصّلة، تندرج المسرحية ضمن إطار عمل الهواة والفنانين الصاعدين (جزء من البرنامج الشتوي لـ «مدرسة بيروت للمسرح وفنون الأداء»)، أشرفت عليها زينة دكاش. وحصلت على الدعم وشروط العمل في وقت قصير للكتابة، والتحضير، والتنفيذ، ما يحتّم على البرنامج إعادة التفكير في الشروط التي يحددها في الدورات التالية. مع ذلك، يبقى مستوى الكتابة الشفافة والبسيطة، والحبكة غير الأرسطية، تحفز السؤال عما نعيشه في مدننا، التي صارت مظلمة، وروتينية، تبعث على الخوف، في كثير من الأحيان.

«الفيل يلي بالأوضة»: س: 19:30 مساء اليوم وغدٍ الأحد ـــ مسرح «مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ الحجز في فروع مكتبة «أنطوان» أو «أونلاين»