الخسارات كثيرة مع بداية هذا العام. قبل حسين ماضي، فُقد المحترف التشكيليّ الفنان العراقيّ وضّاح فارس (1940 ـــ 2024)، المولود في بيروت لأب عراقيّ وأمّ حلبية. أمضى فارس حياته في لبنان ولم يغادره سوى لرحلات فنية إلى باريس أو لندن، كي يؤوب كل مرة إلى المدينة التي يعشقها... بيروت. في مطلع الستينيات من القرن الماضي، سعى فارس إلى دراسة الهندسة في إنكلترا. عمل في شبابه مصمّماً في جريدة «النهار» ومجلات «الحريَّة»، و«الحوار» و«شعر»، ورسم غلاف ولوحات مجموعة «موت سرير رقم 12» القصصية للكاتب الشهيد غسان كنفاني. تروي معارضه نزوات رجل عايش بعمق مراحل بناء الحياة الحديثة في بيروت الكوسموبوليتية التي عشقها. في أيام مقاهي الستينيات («الهورس شو» تحديداً)، كان يرصد الأشخاص الذين كانوا يمرون أمامه في شارع الحمرا، ويرفق صورهم ببعض الأخبار والتعليقات.
ظهرت أول رسومه التجريدية في الأعداد الأخيرة من مجلة «شعر» عام 1968، إضافة إلى تعاونه مع «غاليري بريجيت شحادة» التي استقدمت عام 1969 معارض لفنانين أجانب، بينهم الشاعر والنحات والفنان الألماني ماكس إرنست وأندريه ماسون كرائدين من رواد السوريالية في العالم. صوّر ماسون في زيارته إلى أروقة قصر بيت الدين، وقدم اللقطات التذكارية النادرة التي جمعت الشاعر جورج شحادة وزوجته بريجيت في دارتهما مع ماكس إرنست وزوجته دوروثي تاننغ، وجولاتهم في أحياء بيروت القديمة وأوقات السمر التي أمضوها في مراقصها الليلية، فضلاً عن الرسم الذي أهداه إرنست لوضّاح فارس كعربون صداقة. يخبرنا في أحد معارضه عن إحساس ماكس إرنست بأنه كان لا يزال يفتقد شيئاً قبل مغادرته لبنان. الوجهة كانت «كباريه فونتانا» لمشاهدة الرقص الشرقي وتعلّمه. التقط فارس صوراً لإرنست مع الراقصة الشرقية التي رفضت أن تأخذ بدل أتعابها «لأننا فنانون بين بعض» كما يروي فارس. في هذا الإطار، يقول الشاعر الراحل أنسي الحاج في أحد معارض وضّاح فارس إنَّ العلاقة بين الكاميرا والتصوير لم تتخذ شكل الاحتراف بل الحبّ. ظهرت تصاميم فارس أيضاً في منشورات وملصقات غاليري «كونتاكت» (في عام 1972) التي أسهم في تأسيسها وإدارتها إلى جانب سيزار نمّور وميراي تابت. تعاون في عام 1974 مع لجنة «مهرجانات بعلبك» في تصميم منشوراتها، حين كان لبنان يستقبل عمالقة عالم الجاز، وقد رافقهم وضاح فارس بعدسته، بينهم عازف الكونترباص الأميركي تشارلز مينغس وحفلة كارلهاينز شتوكهاوزن والمغنية الفرنسية فرنسواز هاردي إحدى أبرز نجمات الأغنية الشبابية في ذلك الزمن.
كان وضّاح فارس صديقاً حميماً لكبار الفنانين والمثقفين يصوّرهم بشغف الهواية: غسّان تويني يدخّن سيجارته، فرنسوا عقل يدخّن سيجاراً، رياض الريس يقود الدراجة النارية، شوقي أبي شقرا بعينين شبه مغمضتين، يوسف الخال يتطلّع جانباً، ميشال أبو جودة يتحدّث بالهاتف بجدّية، شفيق عبّود مبتسماً، سلوى روضة شقير ضاحكةً، ماكس إرنست في سوق النحاس في البسطة، هوغيت كالان وسيتا مانوكيان غارقتين في التفكير العميق، رفيق شرف متحدّياً، هيلين الخال منفرجة الأسارير، أمين الباشا منكبّاً على عمل فني، وجانين ربيز بأناقتها البورجوازية ولوحات زيتية نادرة تصوّر البقاع للفنان ومصمم الملصقات اللبناني رفيق شرف، إلى جانب تجهيز ضوئي لناديا صيقلي، واللوحات النسوية الرائدة لأوغيت كالان، وأخرى للشاعر الراحل سعيد عقل وبدايات نبيل نحاس ونزيه خاطر وشفيق عبود وحسين ماضي، وفاتح المدرس ومنحوتات الأخوة بصبوص...
صوره سرد اجتماعي وسياسي وثقافي عن فترة ما قبل الحرب وما بعدها في بيروت


من الوجوه التي صوّرها أيضاً: منى حاطوم، ونهاد الراضي، وفريد حداد، وبول طنوس، وعجاج العراوي رئيس قسم الإخراج في جريدة «النهار»، والكاتب عصام محفوظ، والروائية حنان الشيخ في لحظة حميمية مع زوجها فؤاد معلوف، والرسامة نجاح طاهر، وغيرهم من الوجوه التي مرت في بيروت أو تركت أثراً في تلك المدة المضيئة اللبنانية. تتخذ الصور شكل حديث بسيط يجري بين شخصين في مقهى، أو حوار صامت بين الممثلة رينيه الديك وخيالها المنعكس على الزجاج في الـ «هورس شو». ألبوم فارس سرد اجتماعي وسياسي وثقافي عن فترة ما قبل الحرب وما بعدها. كما نرى واجهة بيروت البحرية التي اختفت كلياً، وزوايا من شارع الحمرا وقد تبدّلت ملامحها، وأماكن نجهلها تماماً، ووجوهاً صارت بعيدة، وأحاديث خافتة في «متحف سرسق» لأشخاص غابوا كلياً.
في أحد مقالاته في مجلة «العربي»، يقول الفنان العراقي ضياء العزاوي: «لعب أبو صادق (وهذه تسمية مجموعة من العراقيين لوضاح فارس لكثرة أكاذيبه الطريفة) بأفكاره التمرّديّة دوراً كبيراً في تقديمنا لبيروت ومعه اختفت العشرات من أعمالنا ولم نكن بالمبالين بسبب روح الصداقة التي جمعتنا». ويقول الناقد فاروق يوسف: «وضاح وهو ابن الترف البغدادي، واحد من مدوزني إيقاع تلك المرحلة التي شهدت وفرة في الحب والشغب والاختلاف والشغف والنزاهة في الفن كما العفة في الجمال. سجلات وضاح فارس واحدة من أعظم وثائق عصرنا العربي الذي وأده الظلاميّون بمختلف توجهاتهم وأهدافهم العقائدية. فالزمن الذي تضعه صور فارس وتسجيلاته ومقتنياته الفنية أمام عيوننا، هو زمن التنوير العربي الذي صارت استعادته اليوم أشبه بالمستحيل». عشية الحرب الأهلية، كان وضّاح فارس يطمح إلى افتتاح صالة ثانية في الرملة البيضاء باسم «الرواق» حتى إنّه أعدّ اللوغو الخاص بها وجال في البلدان العربية لاستقدام المواهب والتجارب الفنية العربية إلى بيروت. إلا أن اندلاع الحرب عام 1975، أجهز على هذا الحلم مثل آلاف الأحلام التي أجهضت. غاب صاحب الضحكة المبهجة والكاريزما المحبّبة، الذي عاش حرّاً من أجل الفن، فنّه وفنّ الآخرين، عاشقاً لبيروت وركيزةً من ركائزها الثقافية. بغيابه، يغيب وجه مشرق من تاريخ بيروت زمن كانت موئلاً وحاضناً للفن العربيّ والثقافة العربية... إلى ذاك الزمن كان وضاح فارس ينتمي.