منذ السابع من أكتوبر الماضي وتزداد دعوات التلاحم مع الفلسطينيين في غزة خاصة، وفي مختلف أماكن المواجهة في السجون وخارجها. إلا أنَّ هذه الدعوات والتحركات الميدانية تتالى في غياب كامل للحراك السياسي الرسمي الفلسطيني، الذي قد أصبح مادةً للتفجّع الفلسطيني وليس خيبة الأمل، إذ لا أمل في السلطة الرسمية وأحزابها حتى يُصاب الشعب بخيبتها. إلا أنّ هذه الدعوات تترافق مع عمق الشعور باليُتم السياسي وبعراء المجتمع الفلسطيني في الضفة، الذي يعاني من شح وضعف إمكانات مقاومة «منظمة» على مستوى الردع العسكري كالتي في غزة، وخصوصاً في ظل ملاحقة عميقة لكل إمكانات المقاومة في شمال الضفة وأنحاء أخرى فيها واستنزافها، على أهمية فعلها وتنظيمها واستمراريتها في إمكانات الواقع.
استعادة الانتفاضة الأولى وغياب شروطها
تحاكي تظاهرات الإسناد والتحركات في الضفة الغربية بشكل أو بآخر لحظة انتفاضة عام 1987، في ظل تغييب للشروط الاجتماعية السياسية والمجتمعية التي خلقت لحظتها، بما تشتمل عليه من الشعور المجتمعي الجمعي بالضرورة الطارئة والملحّة لتنظيم المجتمع بنفسه، التي تحولت لاحقاً إلى مركب جوهري وأساسي لمشهد الانتفاضة نفسه.
تتمثّل أشكال الاستعادة اللاواعية للحظة انتفاضة الحجارة اليوم في أشكال عدة تتبدّى مثلاً في استدعاء لحظة الانتفاضة الأولى كمرشد استدلالي عند النقاش المجتمعي أو نقاش الجماعات في الشكل الأفضل للتلاحم بالميدان، ومحاولة إسقاط شكل النشاط والحراك والانتفاض المجتمعي الذي كان متناسباً في عام 1987 مع أشكال التحركات اليوم، كالدعوة المتواترة إلى الإضرابات على مستوى السوق الفلسطيني سواء على صعد المؤسسات أو في الجامعات والمدارس، التي تترافق مع ضعف في التحشيد الشعبي اللازم لحشد الميادين والشوارع.
وعلى الرغم ممّا للإضرابات من أهمية على مستوى التعاضد النفسي، إلا أنّ سياقاته المادية اليوم تختلف عن حالة الإضرابات التي غلبت طابع المقاومة المجتمعية في انتفاضة عام 1987، حين كانت الإضرابات تضرّ بشكل أساسي المشغل «الإسرائيلي» و«السوق الإسرائيلية». وعلى الرغم من تعقيد وتبعية الحالة الاقتصادية الفلسطينية للسوق الإسرائيلية، إلا أنَّ تكثيف حالة الإضراب في الضفة الغربية اليوم يفقد معناه وزخمه المادي الذي كان مكثفاً في انتفاضة الحجارة.
يُضاف إلى ذلك تكثيف الدعوات لتنظيم خلايا التعليم الشعبية أسوة بما كان قائماً في انتفاضة الحجارة حين أغلقت سلطات الاحتلال الجامعات والمدارس. لكن هذه المرة علّقت الجامعات في معظمها التعليم الوجاهي بقرارات ذات طابع مركب، مردّها، تارة، إلى السلطة الرسمية، إذ لا تغيب التحليلات عن قصدية هذا القرار لاحتواء حالة الانفجار المحتملة في الضفة الغربية، وطوراً إلى مجالس الطلبة أنفسهم، تحت شعار طارئ وعاطفي ينصّ على أنّ «لا تعليم وغزة تُباد». يترافق ذلك مع غياب منهجية واضحة للتعبئة الفكرية لطلاب الجامعات في غياب التواصل المباشر معهم، وهي من أهم مهام الجامعة الوطنية، وخصوصاً في سياق استعماري وسياق حرب طاحنة. ويأتي ذلك رغم ما قامت به نقابة الأساتذة والعاملين في جامعة بيرزيت، ولا نبالغ إن قلنا حصراً بين نقابات الوطن، من محاولة للتغلب على حالة تجميد التعليم وطرح خطط بديلة للتعليم المواكب للحالة السياسية وتركيزها على إحياء حيّز الجامعة، كحيّز مكاني ومعرفي وسياسي.
لكن الدعوات إلى التعليم الشعبي في الحرب، من ناحية المنهج والأداء، لم تغادر تصوّر ومخيّلة التعليم الشعبي في الانتفاضة الأولى كلحظة تاريخية. كما أن الاجتماعات والمشاورات التي بحثت في شأن «ماذا نعلّم؟» و«كيف نتعلّم» و«ما دورنا» على أهميتها من أسئلة، اتخذت وقتاً أطول مما يلزم للتنفيذ بما لا يتناسب مع حالة حرب طاحنة كهذه. أمر انعكس على بطء وضعف نسبي في الأداء على أرض الواقع. وهذا ربما يقودنا إلى نقد حالة انتفاضة عام 1987 التي اتخذت في مخيلة الفلسطينيين وأذهانهم طابعاً رومانسياً إلى حدّ ما، إلى درجة تغييب النقد عن مجريات وأحداث الانتفاضة التي أحيلت مآلاتها في مباحثات مؤتمر مدريد 1990 واتفاقية أوسلو في عام 1993. وهو ما يصفه الأسير مصطفى مرعي بأنه، أي اتفاق أوسلو، «قطع الطريق على انتفاضة متدحرجة ومتصاعدة وواعدة، وهذا ما ينقص من نقد للتجربة التاريخية الفلسطينية».
أما الدور الاجتماعي اليوم، فيقتصر على تحركات شعبية (متفرقة نسبياً لكن قوّتها تكمن في ذاتها لا في عوامل خارجية وهذه ما زالت في طور التشكل والنمو). يحاذي ذلك غياب بنية اجتماعية قوية وتحركات اجتماعية ذات قاعدة جماهيرية، وقاعدة حزبية شعبية مدعومة من قبل قياداتها ليُحال دورها وغايتها إلى تنظيم «مسيرة» كهدف، بعدما كانت وسيلة. ويترافق ذلك مع تحييد دور مؤسسات المجتمع المدني ككتلة تاريخية بتعبيرات غرامشي، تصيغ العلاقة الفاعلة بين مؤسسات المجتمع المدني «البنية التحتية للدولة» كي تقوم بالدور البديل، لدور المؤسسة الرسمية الغائبة/ البنية الفوقية.

ذاكرة الأسى وتعليق زمن انتفاضة الأقصى
أجادل أنّ المشهد السياسي المجتمعي في الضفة الغربية في التعامل مع الحرب على غزة، يهدر المقاربة السياسية والتاريخية مع حدث انتفاضة الأقصى 2000 ويلتحم أكثر في استعادة حدث انتفاضة الحجارة، رغم أنّ الانتفاضة المسلّحة هي الحدث الأكثر ارتباطاً من ناحية المنهج والأدوات كردع عسكري لـ «طوفان الأقصى». رغم أنه لا يمكن تجاوز الفروقات الهائلة من ناحية التطور والتقدم العسكري بين كلا الحدثين، فعبور السابع من أكتوبر يسجل تقدماً وتطوراً تاريخياً على صعيد كل المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك من تطورات عسكرية متقدمة وقوة دفاعية مستميتة ومدروسة بحنكة. لكنه يدعو إلى التوقف والتفكير في سببية أن يُهدر حدث انتفاضة الأقصى في كل المقاربات الاجتماعية والجماعية التي تدعو إلى النهوض بفعل شعبي ومجتمعي مواكب للحرب على غزة وفعل مقاومتها. وربما في إهدار ذلك تجنب لا واع بالضرورة لاستدعاء إجهاض لحظة حسم عسكري تاريخية، كانتفاضة الأقصى المسلحة، التي على أهميتها، قد انتهت بسجن القيادات والكوادر من الأحزاب الفلسطينية والأفراد الذين قامت الانتفاضة على أكتافهم ونفْي بعضهم، واغتيال الشهيد ياسر عرفات ثم تفكيك أجهزة الكتائب العسكرية خاصة كتائب شهداء الأقصى، والبدء بمرحلة جديدة تاريخياً تنطبع بكونها مرحلة السلطة وبناءها و«خرائط طريقها».

السلطة الفلسطينية كحدث مألوف
تعيش السلطة الفلسطينية اليوم حالة من الفوضى والتوتر والمراقبة يردفها فقدان عميق للثقة وانفصال حاد بين الشعب والطبقة الحاكمة، وبين الأحزاب وقاعدتها الجماهيرية، وأجهزة السلطة نفسها. لكنها تراوغ مع الشعب. من هذه المراوغات أنها، لا تمنع التظاهرات والمسيرات إسناداً لغزة، لكنها تؤطر ساحة المظاهرة والمسيرة، إذ ترسم مسارها المسموح، حول «دوار المنارة» حصراً، وإن امتدت المسيرة مثلاً نحو مربع المقاطعة، فإنها أعدّت للشعب، قوات مكافحة الشغب. وإمعاناً في المراوغة مع الشعب، فإنها تعمل على «احتواء حيز المسيرة» حيث تسمح، برفع أعلام حركة «حماس» في قلب رام الله، من دون مصادرتها، وهو ما كان يواجه بعنف في فترات سابقة. كما لا تقمع الهتاف لشخصيات عينية في صفوف «حركة المقاومة الإسلامية- حماس»، كالضيف والعاروري رغم أنها تدعو إلى تسلّم «حماس» سدة الحكم في الضفة أو إلى قيادة جبهة المقاومة. ومن ذلك هتاف يتكرر في المسيرات: «حط السيف قبل السيف/ واحنا رجال محمد ضيف»، و«يللي معك بارودة ومخبيها للأعراس/ يا بتطخ الصهيوني يا بتعطيها لحماس». وكذلك بعض الهتافات الوحدوية لقادة المقاومة: «والضفة بدها مروان مع صالح العاروري».
من ناحية أخرى، شابَ بعض المسيرات حالة من التنافسية على الهتاف بين الأفراد (في معظمهم من أعمار صغيرة)، كما لو كان الهتاف هدفاً بحدّ ذاته لا وسيلة، بما يخلق جواً مشحوناً داخل المسيرة. وربما يُقرأ ذلك في سياق العفوية وعدم التنظيم وحماسة الشباب، كالهتاف الذي ينتقد حالة الركود في المدينة التي هي مقر قيادات السلطة والأحزاب السياسية، بعدما كانت بؤرة من بؤر المواجهة في انتفاضة الأقصى: «مالك رام الله مالك/ ملك شو اللي جرالك؟». وقد تُقرأ، كذلك الحال، في سياق محاولات «جهات» معينة «إعطاب» أو «تخريب» للمسيرة من داخلها، وليس بطريقة فجة وصدامية، بل بخلق حالة من التوتر الذي قد يبدو عفوياً. أمر أثر سلباً على حشد الناس في المسيرات وامتناع بعضهم عن المشاركة.
وعلى صعيد الذراع الأمني للسلطة والتوترات البنيوية فيه، نسجّل هنا انتشار خبر على قنوات التليغرام يتعلق بإعلان مجموعة من ضباط الأجهزة الأمنية سمّت نفسها «أبناء أبو جندل» حالة التمرد على السلطة والتوقف عن تلقي وتنفيذ التعليمات والأوامر والخروج عنها ما لم يعلن رئيس السلطة الفلسطينية حالة المواجهة المفتوحة مع العدو بكل الوسائل. وقد انتشر الخبر سريعاً واختفى سريعاً، وينصّ على إعلان مجموعة ضباط الأجهزة الأمنية الذي أطلقوا على أنفسهم لقب «أبناء أبو جندل»، إمهالَهم الرئيس الفلسطيني 24 ساعة لإعلان حالة المواجهة المفتوحة، وإلا فسيعلنون العصيان والتمرد على أوامر أجهزتهم. وما إن انتشر الخبر حتى أعلن عدد منهم أنّه مفبرك لا أساس له من الصحة. وحتى إن كان الخبر إشاعة، إلا أنّ المرء يتوقف أمام حالة الذعر التي بثّها هذا الخبر.
وإمعاناً في حالة الانفكاك الحادة بين الشعب و«السلطة» الفلسطينية، هو تعميق الشرخ «السياسي» بين سلطتين لشعبين، هما شعب غزة وشعب الضفة الغربية. أمر ينعكس بشكل صفيق في الصمت المطبق للسلطة الفلسطينية حول اتخاذ أي موقف علني وواضح ومؤثر لإسناد «الشعب» الفلسطيني في غزة. كما ينعكس في السيناريوات التي تنخرط بها السلطة الفلسطينية في مباحثات «اليوم التالي للحرب»، وخطابات «محاسبة حماس» وشروط ضم «حماس» إلى «منظمة التحرير الفلسطينية» التي انتهى دورها الجوهري «بالتحرير» منذ زمن. وكذلك الحال مع خطابات التهديد المبطنة للشعب، عبر التلويح بقطع الرواتب تحت ذريعة رفض السلطة الفلسطينية تسلّم المقاصة من دون رواتب غزة، ودعوة الناس إلى التوجه إلى زراعة الأرض كما لو كان ذلك حلاً ممكناً لم يخطر في بال أحد قبلاً. كما أنّ هذا الخيار لم يهدر أمام الشعب عن طريق حرب مصادرة مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية سواء عن طريق استيلاء المستوطنين عليها أو عن طريق تكبيد المزارع الفلسطيني خسائر فادحة أمام شروط ما يزرع في أرضه وإلى أي الأسواق يصدّرها، عدا عن منافسة السوق الإسرائيلية للمزارع الفلسطيني. وهذا مرده إلى تبعية السوق الفلسطينية للسوق المعادية (الإسرائيلية) كما في بروتوكول باريس الاقتصادي- الملحق الاقتصادي لأوسلو، وكل المنظومات الثقافية التابعة، من قبيل منظومة الرفاه والسعي لبناء مشاريع استثمارية على أراضي الفلاحين، وغيرها من ممارسات أفقدت الفلاح الأرض.
إن حدث عبور أكتوبر، كحدث استثنائي وناضج على صعيد المقاومة الفلسطينية، يتطلب أن يكون هناك أحداث مساندة ورديفة ترقى إلى مستوى الحدث. فالحدث المستجد يستدعي أدوات خلّاقة للتعامل معه ومواكبته وإسناده، ولن تجدي الأدوات القديمة التي كانت تصلح لزمن مختلف. وعلى أهمية ما للتراكم التاريخي في تجربة المقاومة الفلسطينية، إلا أن حدث عبور أكتوبر يضع المقاومة الفلسطينية نفسها والتحركات الشعبية والمجتمعية الداعمة في تحدٍ يتمثّل في أن يشتمل المستقبل على أدوات تعامل خلّاقة مع الواقع الفلسطيني-الاستعماري المستجد. وبذا فالحراك الشعبي بعد 7 أكتوبر، حتى الآن، وعلى أهميته، يفتقد إلى التجربة التاريخية القابلة للمحاكاة ويعجز نسبياً وحتى اللحظة عن خلق تجربة موازية للحدث.

* محاضرة في «جامعة بيرزيت» ـ فلسطين المحتلة