بعد عشر سنوات على فيلمه الأخير «تمبكتو» (2014)، الذي نافس على السعفة الذهبية في «مهرجان كان السينمائي الدولي»، يعود المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو بفيلم «شاي أسود» المشارك في المسابقة الرسمية في «مهرجان برلين السينمائي» الحالي. ، بين «تمبكتو» و«شاي أسود»، سنوات طويلة، يبدو كأن سيساكو خسر فيها الكثير من شعريته البصرية وحساسيته النقدية تجاه مواضيعه التي تضعنا بين اليأس والأمل.سيساكو الذي يركّز غالباً على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في أفريقيا المعاصرة، ينقل القارة السوداء هذه المرة إلى الصين. في «شاي أسود»، نتعرّف إلى آيه (نينا ميلو) التي رفضت التقاليد القسرية في بلادها وقالت «لا» في يوم زفافها، وغادرت ساحل العاج لتعيش حياة جديدة في الصين. تعيش آيه في منطقة يلتقي فيها الشتات الأفريقي بالثقافة الصينية في أحد أحياء مدينة غوانجو، حيث المجتمع الأفريقي المزدهر يختلط في وئام مع السكان المحليين، من دون حواجز لغوية أو ثقافية. تجد آيه وظيفة في متجر شاي يملكه كاي (تشانغ هان)، رجل صيني يبلغ 45 عاماً، مطلّق ولديه ابن في العشرين من عمره. في خصوصية الغرفة الخلفية للمتجر، يدعو كاي آيه إلى حفل الشاي الصيني. وبينما يعلمها هذا الفن القديم، تنمو علاقتهما ببطء، لتصبح علاقة حب رقيقة مبنية على العطاء. لكن لكي تنجح علاقتهما، يجب عليهما التخلي عن أعباء ماضيهما.
الاستعمار وما بعده، الهوية والانتماء، التقاليد الثقافية والحداثة، الكرامة الإنسانية والتعاطف، العولمة وتبادل الثقافات، كلّها تغلي على نار هادئة في فيلم «شاي أسود»، حيث تدور الأحداث دائماً في وقت مسائي مريح، ويتمحور الفيلم حول جميع أنواع الملذات الحسية، التذوق والرائحة والإيماءات والمشاعر. قد تبدو هذه وصفة سهلة بالنسبة إلى سيساكو، إلا أنّ طموحات الفيلم والبناء الغريب بشكل متزايد، تتفوق عليه، ما يؤدي في النهاية إلى مذاق غريب. الفيلم غريب الأطوار، حتى أداء الممثلين يبدو مفتعلاً، وهذه طريقة سيساكو في إدارة الممثلين، ولكنها لم تكن جذابة في الفيلم.
يقدم سيساكو وجهة نظره المنقّحة حول تجربة الشتات الأفريقي في الصين، بسرد حنون، ومضلّل، لا يغلي. الفيلم سياسي بالطبع، قُدِّم بطريقة متعرّجة جداً، إذ يضيع صدى الموضوعات الأساسية أمام الحب والعلاقات الأسرية والقصص الثانوية وطبعاً الشاي. تتطور القصة من دون شرح التفاصيل، تماماً كما في الأحلام. يطلق سيساكو تلميحات مفادها بأننا ربما نكون فقط في حلم، وأن العالم الجميل الذي تعيش فيه آيه وغيرها من المهاجرين الأفارقة في الصين موجود فقط في مخيلتهم.
عبر الألوان، والخلفيات الشبيهة بالمسرح، ومشاهد تحضير الشاي واستنشاق رائحته المميزة، وسكب الماء بعناية، وإمساك المقابض الملائمة لليدين لكي لا ينزلق الغطاء... يخلق سيساكو قصة خيالية، تخفي جماليّاتها الزخرفية واقعاً قبيحاً، بينما يقدم تصوّره غير الواقعي لجميع المشكلات الاجتماعية والهيكلية السياسية والاقتصادية، عبر الكلمات الحساسة والرسائل الملطفة وقصص الشخصيات السخيفة ونصائح الحياة «البيضاء». يتجاهل سيساكو العنصرية عملياً لكنه يمارسها بشكل غير مباشر، في الأسماء الإشكالية مثل «مدينة الشوكولا» أو حتى اسم الفيلم. نية سيساكو إجراء فحص نقدي للتمييز، لكن هذا لا يحدث، فالشخصيات نمطية والميلودراما في غير محلها، ما يجعل الفيلم في كثير من المحلات سطحياً. الشخصيات الساذجة وحتى طبيعة المكان السوريالي في مكان ما، وفكرة أن كل هذا هو مجرد حلم، تجعل الفيلم في أحسن الأحوال مملاً وفي أسوئها مبتذلاً.