برلين | لمدة ساعتين تقريباً، تبحث المخرجة التونسية الكندية مريم جعبر في سبب الرغبة غير المفهومة في اللجوء إلى العنف، بالاستعارات والمجازات. قبل نهاية الفيلم، تقع القطع كلها في مكانها الصحيح، أو هكذا ربّما وجدت جعبر إجابات لبحثها، لأن كل شيء بالنسبة إليها كان محدداً مسبقاً، وكانت مقتنعة قناعةً تامةً بالنتيجة. يبقى للجمهور أن يقرّر ما إذا كانت هذه الإجابات عميقة أو سطحية. «ماء العين» الباكورة الروائية للمخرجة التونسية مريم جعبر، الذي يعرض في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان برلين»، فيلم صعب، ستبقى صوره ومناظره الطبيعية معنا لوقت طويل، لكن هذا التألق المشهدي أكثر سطوعاً من القصة والشخصيات نفسها التي لا تملك إجابات واضحة. لقد ضاع الاتساع والحرية التي أظهرتها جعبر في البداية، ليبقى شعور قمعي بمحاولة فك شفرات إجاباتها.تأخذنا مريم جعبر إلى صحراء كئيبة وعالم أحلام مفرط الجمالية في الشمال التونسي. هناك تعيش عائلة انضم ولداها مهدي (مالك مشرقي) وأمين (شاكر مشرقي) إلى تنظيم «داعش» ضد رغبة والديهما وذهبا إلى الحرب في سوريا. يمتزج خوف الأم عائشة (صالحة نصراوي) والأب إبراهيم (محمد حسين جرايعة) على ولديهما، من الموت والإرهاب، وأيضاً من عودتهما حيّين لأنهما سيواجهان السجن في تونس. يعود مهدي، حاملاً معه خبر وفاة أخيه الأصغر. يعود ومعه امرأة غامضة حامل، لا يمكننا سوى رؤية عينيها. ريم (ديا ليان) منقّبة، لا تريد التحدث. وبما أن العائدين لا يستطيعان مغادرة المنزل خوفاً من الشرطة، فإن الوضع في المنزل والقرية يبدأ في التدهور. آدم (ريان مشرقي) الابن الأصغر للعائلة يخاف المرأة المنقبة الجديدة، بينما تحدث أشياء مخيفة في القرية: يُقتل خروف، يختفي العديد من الرجال وتعاني عائشة من كوابيس غريبة.
ببضع كلمات وصور مشحونة رمزياً، تروي جعبر قصة ظلال الرعب الطويلة. فيلمها الطويل يبدو كأنه تكملة لفيلمها القصير «إخوان» (2018) الذي رُشح لجائزة الأوسكار. في ثلاثة فصول، تروي التونسية الكندية كيف تؤثر ذكرى الرعب والعنف في البشر، ويؤدي ذلك في البداية إلى تفريغ عائلة من الداخل، ثم يسحب مجتمع القرية بأكمله إلى الهاوية. تنجح المخرجة إلى حد ما في بداية الفيلم في الدمج بين الاستعارة السهلة أحياناً، والصعبة أحياناً أخرى، والأفكار السردية الواضحة. كما أنّ صور المصوّر السينمائي الكندي فنسان غونفيل تخدم الفيلم في المشاهد الثابتة واللقطات القريبة على وجوه الشخصيات، بينما ينعكس الخوف والحزن في عيونها. يُروى الفيلم تقريباً عبر النظرات والحوار المتناثر. تسري لمسة الواقعية السحرية في الفيلم المليء بالأرواح المعذبة. ثم يتحول الفيلم إلى شكل من أشكال الرعب الخارق للطبيعة، وخصوصاً مع مشاهد ريم المنقّبة، وهنا يبدأ الفيلم في الانحدار بسبب قلة البصيرة، وتكريس النظرة النمطية إلى المسلمين عبر ريم المرأة التي تبدو في الفيلم كالشبح الذي يرعب المدينة والمشاهدين.
«ماء العين» مبهر بصرياً، لكن بعد منتصفه، نبدأ بطرح السؤال الذي طرحته جعبر في عنوانه الأجنبي: «إلى أين أنتمي؟» (Where do I Belong to?). نجد صعوبة في فهم أين يقع الفيلم وماذا يريد منّا كمشاهدين. ما يبدأ بواقعية اجتماعية، ينتهي ليكون فيلم رعب مع صور تشبه الحلم تقريباً. الفيلم مهرجاني بامتياز، ينتمي تحديداً إلى مهرجان مثل «برلين»، ولا نستبعد أن يحصد «الدب الذهبي» لأنّه ينسجم مع الرؤية الغربية الاستعمارية تجاه الإسلام. هو سياسي تماماً مثل الفيلم الإيراني «كعكتي المفضلة» (الذي لم يتمكن المخرجان من الحضور بسبب منعهما من السفر من السلطات الإيرانية). بعد عرض الفيلم، بدأت المخرجة مؤتمرها الصحافي ببيان سياسي أشار إلى «اللاعدالة في موضوع التأشيرات» لأنّ اثنين من الممثلين لم يتمكنا من الحضور بسبب عدم حصولهما على تأشيرة. هذا التحكّم الشديد بالفيلم من كل الجوانب الاجتماعية والسياسية، أظهر هشاشة القصة المروية، وفي بعض الأوقات سذاجتها. في النهاية، صحيح أنّ المخرجة تونسية لكنّها تعلّمت وتقيم في كندا، وفيلمها يحمل «توابل» عربية من منظور غربي. لن نقول «استشراق»، كيلا نحمّل الفيلم أكثر مما يحتمل. ولكن لا يسعنا إلا أن نشعر أن جعبر مندمجة اجتماعياً في الغرب، تروي قصصها العربية متأثرة بأشكال السرد الغربي، وربما تسعى لا شعورياً، إلى تحقيق التوقعات الغربية من فيلم عربي، وهذا تحديداً سوف يوصلها ويوصل فيلمها إلى مكان بعيد جداً، وخصوصاً في موسم الجوائز في نهاية السنة.