تمثّل الفنانة التشكيلية منيرة الصلح لبنان في «بينالي البندقية للفن المعاصر» الذي يعدّ التظاهرة الأبرز عالمياً على صعيد الفنون التشكيلية بجميع أشكالها التعبيرية واتجاهاتها الكلاسيكية والحديثة وما بعدهما. الصلح المقيمة بين بيروت وأمستردام، فنانة متعدّدة الاختصاصات، درست الموسيقى ثم الفنون التشكيليّة في الجامعة اللبنانية، وتابعت دراستها الفنية في هولندا، وأقامت معارض منفردة لأعمالها في ألمانيا وبريطانيا واليابان والولايات المتحدة وإيطاليا.وفقاً لوزير الثقافة محمد وسام المرتضى، جاء اختيار الصلح لتمثيل لبنان في الدورة الستين من البينالي (بدءاً من 20 نيسان/ أبريل حتى 24 تشرين الثاني/ نوفمبر) على أساس قدرة الفنانة «الاستثنائية» على «تناول مواضيع مؤثرة» و«بأسلوب ساخر ومقاربة شعرية، وعبر وسائط فنية متنوعة كالرسم والفيديو والموسيقى والأداء والتقنيات الحديثة، كي تنشئ عوالم غامرة تخاطب مختلف الحواس وتحاكي تفاعلات إنسانية معمقة. وهي تنفرد بفنّها القويّ والمعبّر الذي يسرد في تفاصيله روايات وحكايات مبهرة، مزاوجاً بين القصص الشفويّة والمواد التعبيرية الأخرى. وستجد الأسئلة التي ستثيرها أعمالها صدى كبيراً حول قضايا العصر في الجناح اللبناني في البندقية»، وإلى ما هنالك من صفات أُسبغت على الصلح ولم نرها في العرض التعريفيّ الذي نُظّم في «المتحف الوطني» في بيروت متضمّناً شريط فيديو سيّئ الإعداد والتصوّر.


عرض شديد الركاكة والسذاجة يحاكي «طفوليّة» الأعمال المرسومة التي لا تنتمي إلى مذهب «الناييف» أو «الساذج» في الرسم. تيمة عمل منيرة الصلح المشارك في البينالي هي أسطورة الأميرة الفينيقية «أوروبا» التي قرّرت الفنانة إنقاذها من شِدّتِها. على مرّ القرون، غالباً ما خدم تفسير الأساطير حركات الاعتراض والاحتجاج والهَدم. تحضرُ هذه الأبعاد في تجهيز «رقصة من حكايتها». تتمتع الأسطورة في جوهرها بسمةٍ أساسيّة تتمثّلُ في كونها خطاباً عامّاً وعالميّاً، ما يجعلها دائمة المُعاصَرة والقابلية لإعادة التفسير والاستملاك والتدارس. أثار هذا الاختيار استغراب العارفين، فيما لدينا عشرات الفنانات والفنانين الذين يستحقون أكثر من الصلح التي قيل إنّ لجنة اختارتها مؤلفة من ندى غندور ونتالي بونديل (من «معهد العالم العربي» في باريس) وجان فرانسوا شارنييه وباسل دلول (رائد أعمال في قطاع تكنولوجيا المعلومات) وإيلي خوري!
في الرواية القديمة، يظهر «زوس» على شاطئ مدينة صور ويتّخذ شكل ثورٍ أبيض لإغواء الأميرة الفينيقية الجميلة «أوروبا»، فيخدعها ويحملها على ظهره نحو شواطئ جزيرة كريت حيث يتّحدُ معها. في تجهيزها، تقوم الفنانة بربط الحاضر بالأسطورة بطريقة غير متوقعة، إذ تقترح قراءةً بديلة، بل حتّى معكوسة، تفسح مجالاً للنّقض والفكاهة. تسهم رحلة البحث عن «أوروبا»، التي تدعونا الفنانة إلى المشاركة فيها، في صُنع مصيرٍ أنثويٍّ متحرّر من الآلهة؛ أي تولّي دور الرجال ومسؤوليتهم، إنما من دون الخضوع لهم، كما السعي نحو حالة تكافؤ بين الجنسين.
تعبّرُ القصة القديمة التي نَظَمها وفَرَضَها رجال، عن الرغبة في السيطرة على المرأة وإخضاعها. تذكّرنا رحلة «أوروبا» إلى جزيرة كريت، بداهةً، بغنائم الحرب التي أخذها الكريتيون من الفينيقيين.


على مرّ القرون، وخصوصاً في الرَّسم الغربي، تتطوّر تصويرات الأسطورة من فعل الاختطاف إلى حالةٍ من الموافقة والرضى. لكن لطالما كانت وجهة النظر الذكوريّة هي الحاضرة والمعروضة. أمّا هنا فتختار الفنانة إنشاء علاقة مساواة بين الجنسين وإعادة قراءة للأسطورة عبر استبصار ووجهة نظر امرأة حرّة مستقلة اليوم. تسعى الصلح إلى زعزعة توازن القوى بين الإله المسيطر والأميرة الخاضعة. هنا، تتعاون الأميرة «أوروبا» مع «زوس» وتتلاعب به. إنها هي التي تحمله وتمشي به على الماء، وتجعله يدور في الهواء بقدميها كالبالون. في بحثها، تسعى الفنانة إلى تفكيك الصور النمطية الجنسانيّة إلى أقصى الحدود، عبر عكس الأدوار والأجناس، من بينها تحويل كلب «هرقل» إلى كلبةٍ أنثى.
يتمحور تجهيز «رقصة من حكايتها» حول قاربٍ يدعونا إلى رحلة رمزية للانعتاق والمساواة بين الجنسين. غير أن هيكل القارب غير المكتمل يشيرُ إلى أنّ هذه الرحلة لم تكتمل تماماً. يستقرُّ تجهيز منيرة الصلح في مسارٍ تنظمه علاقات القِوى. وسط المعرض، نرى القارب في منتصف الطريق بين الأعمال التصويرية والرسومية التي تدعو إلى التشكيك في المعايير الجنسانية وإلى النضال من أجل المساواة من جهة، ومن جهةٍ أخرى وكشف الأقنعة التي تجسّد القوى المحافظة في المجتمع. إضافة إلى ذلك، تأخذُ الأجسام التي نراها في مساحة المعرض أدواراً في الفيلم (12 دقيقة) المعروض على شراع القارب.
تسعى الفنانة إلى تفكيك الصور النمطية الجنسانية عبر عكس الأدوار


تشكّلُ رسوم منيرة الصُّلح إطاراً لفكرة مركزية طوّرتها في مجموعةٍ من اللوحات التي تتحدى الأيقونية التقليدية. تتبنّى الفنانة استراتيجيّة تعتمد على التبديل والتّحويل والتمسيخ. نرى في العمل عدداً من الشخوص النموذجيّة للثقافة والأسطورة الفينيقيّة تسكنُ، بطريقةٍ فظّةٍ ومفاجئة ومهرّجة، عالماً يقع في الوسط بين الرمز والواقع. لا ترتبطُ زمانيّة عمل «رقصة من حكايتها» بالأسطورة، بل هي زمانية الفنّانة في حوارها مع المشاهد هنا والآن.
وضع تصميم السينوغرافيا المهندس المعماري كريم بكداش من دون أي تأهيلٍ أو تقسيم لمساحته، ما يسمح بالانغماس الكامل للجمهور داخل المعرض. يسهم في ذلك أيضاً التدرّج نحو أفق لا نهائي مطلي باللون الأزرق المُرَمَّد، وهو لون بحر مدينة صور وسمائها، إضافة إلى عوّامةٍ خشبيّةٍ طويلةٍ ومتعرّجة تعبرُ الجناح من الطَّرَفِ إلى الطَّرف الآخر، وتربط اليابسة بالبحر.