إذا اتبعنا المقولة التي تذهب إلى أن ما يُفتقد في الشعر لدى ترجمته هو الشعر نفسه، لما كان لأيّ أمة أن تتعرف على ما تبدعه الأمم الأخرى في مجال الشعر على الأقل.لكن لنبادر ونرفض مقولة اختفاء الشعر عند الترجمة. فهي معضلة لم ولن تجد حلاً لها. فما بين الشعر المتكئ على «اللعب» باللغة وذاك الذي يرى جوهره في «الصورة» حتى اذا غابت غاب الشعر كله، تتأرجح «مدارس» الترجمة لدى ترجمة الشعر.
الترجمة إذن لا بد منها وهي بمثابة «مرغماً أخاك لا بطل». وربما يجب أن نترك للمترجم حريته وعدم تقييده بضوابط معينة. كأن لا نقول له ألا يتصرف كثيراً من عنده كما فعل نقولا فياض في ترجمة «البحيرة» للشاعر الفرنسي الكبير ألفونس دو لا مارتين حيث جاءت الترجمة كما لو أنها كتابة من «نقطة الصفر» على ما هو شائع هذه الأيام، فكنا امام «بحيرة» أخرى لا تقل روعة عن البحيرة الأصل. كذلك ألا نقول للمترجم لا تترجم حرفياً. وألا نقول له لا تترجم من دون بعض التزيين الجمالي الشكلي. كلها موضوعات جدل لا ينتهي.
لكن يبقى أن نقول إنّ ما صدر أخيراً في تركيا من عمل شعري مترجم من العربية إلى التركية هو عمل غير مسبوق، بل ليس أي عمل. تجرأ الباحث التركي محمد حقي صوتشين، استاذ اللغة والأدب العربي في جامعتي أنقرة وغازي، على الغوص في بحر هائج ومتلاطم، وليس أي بحر: بحر المتنبي الذي لا شك في أنّ «الغواص» محمد وصل إلى قاعه عاثراً على درره وصدفاته كما يشير حافظ ابراهيم.
غالباً ما يلجأ مترجمو الأدب الحديث، من شعر ورواية وقصة، إلى «استسهال» الترجمة باختيار نصوص حديثة كتبت، مهما بلغت «تعقيداتها»، بلغة العصر ومفهومة ولو عانى القارئ أحياناً بعضاً من جهد لفك طلاسمها.
أما أن ينجذب مترجم إلى «الدقّ» بأسوار عالية لقلعة شعر من العصر الجاهلي أو الاموي أو العباسي، فأمر قد يستعصي أحياناً كثيرة على الفهم حتى من قبل القارئ العربي، فهذا منتهى المغامرة.
وأي مغامرة قام بها محمد حقي صوتشين! ولعلها بالتأكيد، لم تكن «مغامرة غير محسوبة»، بل كانت في منتهى الحسابات الدقيقة والحساسة، سواء لجهة المضمون أو تقديمها بالشكل الجاذب للقارئ التركي فحافظت على الحُسْنَيين: المضمون والإيقاع الشعري بالتركية من دون المبالغة في التزويق الشكلي. ويؤكد محمد حقي صوتشين، في اتصال معه، على هذه الناحية من الترجمة ليحافظ على روحي الكلاسيكية والحداثة. فلا يأتي شعر المتنبي للقارئ التركي «متقعقراً» بروح الماضي ولا بلغة معاصرة بالكامل لتخاله احد شعراء الحداثة.
لم يأت محمد حقي صوتشين إلى المتنبي من «نقطة الصفر» بل لعله أنهى سباقات المسافات الطويلة عندما تصدى، من دون مبالغة، ببراعة تامة لعدد هائل من الشعر والشعراء العرب القدامى والحديثين كالمعلقات السبع وابن طفيل وابن حزم ومن المعاصرين جبران خليل جبران وأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني ومحمد بنيس ونجيب محفوظ وغسان كنفاني. كما كانت له تجربتان في ترجمات من التركية الى العربية للأديبين التركيين الشاعر الصوفي يونس إمره (القرن الثالث عشر للميلاد) والشاعر والفيلسوف أحمد يسوي (القرن الثاني عشر للميلاد في تركستان)، كما نال صوتشين جوائز عالمية حول أعماله المترجمة.
في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي صدرت لمحمد حقي صوتشين ترجمة لمختارات من شعر المتنبي عن «دار نشر ايفيرست» وبتقديم مزدوج منه ومن رئيس «مركز اللغة» في أبوظبي الدكتور علي بن تميم المعروف عشقه للمتنبي. أما الغلاف فكان من تصميم الفنانة كارديلين أقتشام وكان معبّراً عن بيئة المتنبي حيث الكثبان الرملية المتعاقبة يمخرها حصان يمتطيه ما يفترض أن يكون المتنبي نفسه.
أحسن محمد حقي صوتشين عندما اختار المتنبي للترجمة لأنه التعبير الأهم عن الشعر العربي عبر العصور. وإذا كان له مثلاً أن يختار، لكان اختياره يبدأ من امرئ القيس ثم المتنبي فأحمد شوقي انتهاء بأدونيس. ولا ينقص هذا المربع لدى صوتشين سوى احمد شوقي الذي هو، مع ادونيس، التعبيران الأكبران، حتى في تناقضهما، في الشعر العربي الحديث والمعاصر.
يقع الكتاب في 356 صفحة من القطع الكبير، وقد أسماه المترجم بـ «المتنبي: أغنية الانسان». وهو كان بذلك يعكس اختياره الخاص لأبيات وقصائد من الشاعر العربي الأكبر يتجلى فيها البعد الوجداني وما يمت بصلة للأعماق الإنسانية لدى «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وبذلك كان محمد حقي صوتشين يغيّب عن قصد القصائد التي تعكس مناحي الفخر والتفاخر والعظمة (وصولات الهجاء والمديح الشهيرة لدى المتنبي). وهو يعتقد أنّ القصائد «الإنسانية» عابرة للأمم والجغرافيا وتجعل من المتنبي شاعراً عالمياً بحق.
مختارات صوتشين في الكتاب تراوحت بين بيت واحد وبين أبيات متعددة من القصيدة الواحدة، مع استبعاد ترجمات لقصائد مطولة. وقد وضع، في مقارنة ناجحة وربما من أجل المزيد من الأمانة، النص العربي (مشكّلاً بالكامل) من الأبيات على صفحة تقابلها الترجمة التركية على الصفحة المقابلة. وبلغ عدد النصوص المترجمة 145 نصاً احتل كل نصّ صفحة حتى لو كان بيت شعر واحداً، مع عدد قليل من النصوص الطويلة التي سادت مساحة صفحتين. وأرفق في الصفحة 39 رسماً للمتنبي كما تخيله جبران خليل جبران.
ولا شك في أنّ ما قام به محمد حقي صوتشين كان عملاً مذهلاً. فالمتنبي، كما يدرك قارئ العربية، هو شاعر المعاني المتراصة واللغة المتشابكة التي تنتمي إلى عصور كلاسيكية بامتياز تعود إلى أكثر من ألف سنة. لذلك فإن إقدام مترجم تركي أو غير تركي الى ترجمته الى التركي عمل يحتاج أولاً إلى معرفة عميقة باللغة العربية. ولم يكتف صوتشين بهذه الميزة بل عمل على ترجمة النص إلى لغة تركية حديثة تراعي «رائحة» العصور القديمة، فجمع بين «العصرين». أيضاً وضع المترجم النص العربي بلغة تركية تراعي جوهر «الصورة – الفكرة» لدى المتنبي، فحضر الوزن والإيقاع في مغامرة صعبة ربما كان لزوجته الشاعرة المعروفة ألتشين سيفغي «يد» مؤثرة كما يقول المترجم في اتصالنا معه. وقد نجح محمد حقي صوتشين في اجتياز المغامرة أيما نجاح.