إذا كان من معرض يجب أن يستضيفه «معرض رشيد كرامي الدولي» في طرابلس، فهو معرض يروي كيف تحوّل هذا المعلم الذي أريد له أن يكون منارةً للبنان ومساحة للتفاعل الاقتصادي والتجاري والفني والثقافي بين بلد الأرز ومختلف بلدان العالم، إلى «زومبي» وبقعة تحتل مساحة واسعة من وسط طرابلس من دون أن تعود بأي منفعة على المدينة وأهلها سوى تذكيرهم بأحلامهم المبددة والإهمال الذي لحق بالفيحاء، التي تم إغراؤها بلقب عاصمة ثانية وأبقي عليها كضيعة. تتشابه حكاية المعرض مع حكاية لبنان: من النهضة والازدهار إلى الانحطاط، ومن أوهام الإنماء المتوازن إلى حقائق التردي الشامل والمتساوي، وفصول عن عدّة الشغل اللبنانيّة من المماحكات السياسية والحساسيات المناطقية إلى الإهمال واللامسؤولية، حتى نجح المعرض في أن يدرج على لائحة التراث العالمي كما على لائحة المعالم المهددة بالزوال...
فرملة الاندفاعة نحو الحداثة
تبلغ مساحة «معرض رشيد كرامي الدولي» حوالى مليون متر مربع، ويحتلّ بالتالي ما يقارب نسبة الـ8 في المئة من مساحة وسط مدينة طرابلس. مساحة لم تمنح للمعرض عبثاً، فالغاية من المعرض كانت أن يتحول إلى عصب المدينة وقلبها النابض. أتى اختيار طرابلس لينسجم مع خطط العهد الشهابي الإصلاحيّة ومساعي الرئيس فؤاد شهاب بتعزيز الإنماء المتوازن بين مختلف المناطق. يلفت المهندس المعماري ورئيس «جمعيّة تراث نيماير» في طرابلس، وسيم ناغي، إلى أنّ مصمّم المعرض المهندس البرازيلي الشهير أوسكار نيماير (1907 ـــ 2012) قال إنّ «طرابلس فيها نواتان: المدينة المملوكية التاريخية والواجهة البحرية والجزر. أما المعرض، فسيشكل قطبها الثالث وسيحوّلها إلى مدينة رائدة اقتصادياً وسياحياً». يشرح ناغي أنّ فكرة إنشاء معرض دولي في طرابلس أتت «من وحي معرضَي «دمشق الدولي» وإزمير، يوم كانت المعارض الدولية تعتبر مرفقاً أساسياً لأي بلد يتجه نحو الازدهار والتطور. في ذلك الوقت، كان لبنان يلقّب بسويسرا الشرق ويجنح بسرعة نحو الحداثة». على هذا الأساس، وقع الاختيار على مصمّم برازيليا، عاصمة البرازيل الجديدة «الذي يعتبر أحد أهم رموز الحداثة المعمارية. فالدولة كانت تبحث عن اسم يضفي على المشروع قيمةً فنيّةً ومعنويّة، بما يتوافق مع الأهداف الضخمة التي كانت مرسومة له».
إلا أن الاندفاعة نحو المستقبل سرعان ما فرملتها العقبات اللبنانيّة التقليدية من مماطلة وهدر وقت وشحّ تمويل وتبذيره في آن. رغم صدور قرار مجلس الوزراء، بإقامة المعرض الدولي في طرابلس في تشرين الأول (أكتوبر) 1959، إلا أنّ عملية اختيار الموقع استغرقت أكثر من سنتين، ولم يُبتّ بها إلا عام 1961، أي قبل عام من التاريخ الذي حدّدته لجنة المعرض عام 1959 كتاريخ لافتتاحه.
حضر نيماير إلى لبنان في تموز (يوليو) 1962 وكانون الأول (ديسمبر) عام 1966. وبحسب ناغي، «أنجز التصاميم الأولية خلال شهر واحد في آب (أغسطس) 1962، ثم جرى تطوير التصاميم عام 1963، إلى أن بدأ تنفيذ المشروع في 1964». وعوض أن يفتتح المعرض عام 1967، طال الأمد حتى عام 1975 لتشييد جميع مبانيه الحاليّة قبل أن تخضع لتعديلات مستقبلاً. وفيما نجحت البرازيل مع نيماير في بناء عاصمة جديدة بالكامل خلال أربع سنوات، ما بين 1956و 1960، طال أمد إنجاز المعرض لأكثر من عقد، في مرحلة حساسة إقليمياً ومحلياً، ستدفع طرابلس ولبنان ثمنها غالياً.
يكشف المهندس المعماري، ونقيب المهندسين السابق جاد تابت، أنّ «الرأسمالية اللبنانية كانت متمركزة في بيروت ومحيطها، ولم يكن لديها حماسة لإنماء طرابلس. وهذه الأوليغارشية لا تزال مستمرة حتى اللحظة، وإن تبدلت بعض الأسماء. أين أغنياء طرابلس وأموالهم وأين يوظفون استثماراتهم؟ في بيروت! هذا مرتبط بالاقتصاد اللبناني وبنيته». من جهته، يلفت وسيم ناغي إلى أنّ خوفاً مزدوجاً أسهم في تأخير إنجاز المعرض: «خوف في بيروت من أقطاب الاقتصاد، وخوف في سوريا من منافسته لـ «معرض دمشق الدولي» الأصغر مساحةً والأكثر تواضعاً لناحية تصميمه الهندسي. كذلك، أثّرت أزمات التمويل وصفقات الفساد في إطالة أمد المشروع». ويجزم أنّه في حال تم افتتاح المعرض عام 1967 أو حتى خلال عامي 1968 و1969، فإنه كان سيخلق عجلة استثمارية ضخمة في طرابلس، ويحوّلها إلى إسطنبول المنطقة، ويجعلها بحقّ العاصمة الثانية للبنان». فافتتاح المعرض قبل سنوات من الحرب كان ليؤدي إلى خلق نهضة سياحية وإنمائية في طرابلس، وتزويدها بالبنية التحتية اللازمة لمواكب مشروع بهذه الضخامة، وهو ما كان ليخلق نواة كان يمكن البناء عليها في مرحلة ما بعد الحرب.

ضريبة الحرب وإعادة الإعمار
مع اندلاع الحرب الأهلية، كان المعرض «من أول المنشآت العامة التي تعرّضت للاقتحام والنهب حتى التسعينيات»، وفقاً لناغي. وعوض أن يستقطب حرم المعرض ومبانيه المؤتمرات الاقتصاديّة والعروض الفنيّة والثقافيّة، أصبح مقراً للمسلحين من فصائل عدة ثم ثكنة عسكرية للجيش السوري، ما زاد من عزلته عن محيطه، خصوصاً أنّه محاط بسور خرساني - لم يكن نيماير يريده في الأساس - زاد من انفصاله عن باقي المدينة وسكانها. في عام 1991، حاز المعرض تسميته الحاليّة، أي «معرض الرئيس الشهيد رشيد كرامي الدولي»، بعدما كان قد عرف تسميات عدة. ومع ورشة الإعمار بعد الحرب، كان للمعرض نصيبه من الترميم، الذي لم يخلُ من الأخطاء الكارثيّة التي لم تراعِ عظمة فنّ نيماير، وتعاملت مع المنشآت في كثير من الأحيان على أنها مجرد مبانٍ عاديّة يسري عليها ما يسري على غيرها من المباني. يكشف ناغي أنه «باستثناء مبنى السكن الجماعي الذي تحول إلى فندق ما بين عامي 2000 و 2003، فإنّه يمكن بسهولة استرجاع أصالة معظم منشآت المعرض، رغم بعض أعمال الترميم الخطأ. باستثناء الفندق الذي شوّه عمل نيماير، فإن 95 في المئة من أصالة المنشآت لا تزال موجودة. كما أنّ تصنيف المعرض على لائحة التراث العالمي للأونيسكو ما كان ليحصل لو كانت هنالك إشكالية في هذا الخصوص».

انهيار... ولكن
بعدما أريد للمعرض أن يكون تحفةً فنية معمارية ودليلاً على نهضة لبنان ومركزية دوره في المنطقة آنذاك، تصدّع المعرض كما الدولة، وشارف على الانهيار. إبداع ومخاطر في آن، دفعا لجنة التراث العالمي إلى إدراج «معرض رشيد كرامي الدولي» على لائحة التراث العالمي للأونيسكو بصورة عاجلة في كانون الثاني (يناير) من العام المنصرم. كما اتخذت قراراً بإحالته المباشرة إلى لائحة التراث العالمي المهدّد بالخطر. وبحسب تابت، الذي أعدّ ملف ترشيح المعرض في لائحة التراث العالمي، فإنّ «وضع الإنشاءات سيء جداً. بعض المباني تعاني من مخاطر كبيرة وبدأت تنهار. يجب الاستعجال في الترميم». إلا أنّ المطمئن أنّ «كلفة الترميم مقبولة وغير مكلفة بحسب بعض العينات التي أخذت من الباطون. الوضع أقل سوءاً مما كنا نتخيل. الأموال التي نسعى إلى تأمينها، تسمح بالترميم الإنشائي قبل التشغيل». ويؤكد أنّ «أيّ تمويل سيأتي من الخارج لن يعطى للمؤسسات ولا للسياسيين اللبنانيين، بل سيعطى مباشرة للأونيسكو كي تتولى تنفيذ الأشغال. لا أحد يملك ثقة بالمؤسسات اللبنانيّة». وعن مصدر التمويل، يعلن أنّ «الأونيسكو لا تتدخل في التمويل. لكن صبغة الأونيسكو ووضع المعرض على لائحة التراث العالمي عاملان مساعدان لتأمين التمويل اللازم». وحول المخاوف من تنفيذ الترميم على الطريقة اللبنانيّة، يشدد تابت على أنّ «وضع المعرض على لائحة التراث العالمي يفرض احترام معايير الأونيسكو في الترميم ومنع ترميم عشوائي. أي مشروع ترميم يفترض أن توافق عليه الأونيسكو».
مع اندلاع الحرب الأهلية، تعرّض المعرض للنهب والاقتحام حتى التسعينيات


السؤال الكبير هو: ماذا عن مصير المعرض مستقبلاً؟ يعتبر تابت أنّ «زمن المعارض الدولية ولّى. يمكن استخدام هذه المساحة لأمور ثقافية وتربوية كإنشاء فرع للجامعة اللبنانية على جزء منه. كذلك يمكن تحويل المساحة الخضراء فيه إلى حديقة عامة، فطرابلس بحاجة إلى متنفس طبيعي». يؤيد ناغي فكرة أن «زمن المعارض انقضى منذ نهاية الثمانينيات. وأصبحت المعارض متخصّصة بمواصفات مختلفة. حتى مباني المعرض المصممة لاستقبال نشاطات ومعارض لم تعد تجاري المتطلبات العصرية». يرى ناغي أن «المعرض جاهز اليوم ليكون واحة استثمارات بعد تصنيفه على لائحة التراث العالمي. والمعرض واحة متعددة الاستخدامات، وهو يصلح لتنظيم معارض وإضافة منشآت جديدة فيه تتوافق مع متطلبات العصر».
لكن هل يمكن تصوّر نمو المعرض مستقبلاً في الوضع الحالي الذي تعيشه طرابلس؟ في رأي تابت «فمن المفضّل أن يكون هناك مشروع نهضة متكامل للمدينة وللمعرض. ولكن بحسب واقع الحال، يجب أن نفكّر بشكل تدريجي. في حال تطور المعرض وعادت إليه بعض الأنشطة، ساعتها يمكن أن تنشأ ديناميكية تساعد على تطوير طرابلس. عملية صعبة وتتطلب ليس أموالاً فقط، ولكن مبادرات للطبقة الغنية التي لا تريد التوظيف في المعرض. لكن ربما إذا بدأت ورشة عمل معيّنة، فقد تولّد ديناميكية معينة تحفز رأس المال على القدوم والاستثمار في طرابلس».



نحّات العمارة
ولد أوسكار نيماير في البرازيل عام 1907 وفارق الحياة عن عمر 104 أعوام في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2012. يعتبر أحد أبرز رموز الحداثة المعماريّة، يغلب في تصاميمه الشكل على الوظيفة، ويعتبر بحسب المهندس المعماري ورئيس «جمعيّة تراث نيماير» في طرابلس وسيم ناغي «أنّ الشكل عندما يخلق الجمال تصبح له وظيفة. وقد لاقت فلسفته عدداً من الانتقادات ممن اعتبر منشآته ساحرة لأخذ الصور إلى جانبها، ولكنها في الوقت عينه سيئة للاستخدام». ويُعرف نيماير بسيد المنحنيات، وهو ردد دوماً أنه استوحى تصاميمه من منحنيات جبال بلاده ونسائها، وهذا ما ميّز أعماله بجرأة في تكوينها يخرجها من الجمود ويظهرها في حركية دائمة.
لم تكن تصاميم نيماير وأعماله مفصولة عن قناعاته وتوجهاته الفكريّة والسياسيّة، إذ اعتنق الشيوعية منذ شبابه. ويرى المهندس المعماري ونقيب المهندسين السابق جاد تابت أن نيماير «كان مؤمناً بأن على العمارة الحديثة أن تخدم الشعب والفئات الفقيرة، وهو ما لو يوفّق به دائماً، لأن السوق الرأسمالية أقوى من توجهات المعمار». ورغم دوره في تصميم برازيليا، العاصمة الجديدة للبرازيل، فقد دفع ثمن توجهاته الإنسانيّة. فعلى أثر الانقلاب العسكري في بلده عام 1964، أعلن استقالته مع 200 شخصية أكاديمية مرموقة من الجامعة، احتجاجاً على الحكم العسكري، كما أغلقت مجلته المعمارية. وفي عام 1967، دفعه العسكر نحو المنفى، حاله حال عدد كبير من المثقفين البرازيليين المعروفين.
إضافة إلى «معرض رشيد كرامي الدولي»، من أبرز إنجازاته المعماريّة مشاركته في تصميم مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وتصميم «متحف كاركاس» في فنزويلا وجامعة قسطنطينة في الجزائر، ومقرّ الحزب الشيوعي في باريس ومتحف «نيتيروي للفن المعاصر» في البرازيل، ومسجد بينانغ الرسمي (نيغري بولاو بينانغ) في ماليزيا وغيرها الكثير من المباني حول العالم.