دائماً ما كان الموروث الديني بما يحوي من مبالغات إلى حد الأسطرة عاملاً أساسياً مشعلاً لكثير من الحروب التي يستغلها الساسة كما الدول لإضفاء نوع من القدسية على مواقفهم وتجييش جماعتهم وشدّ العصب الطائفي بغية كسب التعاطف وتوجيه الرأي العام لطاعة الحاكم أو شحذ الهمم لممارسة العدوانية والتوسّع والسيطرة على الآخرين.طرفان يوظفان ضد الإنسان من الإنسان نفسه (الدين والسياسة) ومن يدفع الثمن في النهاية هو المستضعف في الأرض الذي لا حول له ولا قوة، وخصوصاً في المجتمعات التي تقتات على الثقافة الدينية المتلبسة في وجدانها والمحركة للاوعيها حيث الخرافات والقصص الدينية تشكل المجال الخصب الذي يسرح فيه أُلعبان السياسة والدين.
تتجلى العلاقة بين الدين والسياسة في خضوع السياسة المطلق للدين وكأنه هو الكامل والمطلق في طبيعته بحيث يسمو فوق كل سياسة وجدت أو ستوجد. من هنا عادت الأديان في القرن الحادي والعشرين بقوة في مشرقنا، ذي الصبغة الدينية مهبط الرسالات السماوية، كعنصر فعّال في تشكيل الوعي الجمعي عند الدول، وكعنصر مؤثر في توجيه الصراعات والأحداث وتجييش العصبيات، حتى بين أتباع الدين الواحد كاليهودية، حيث يشتد الخلاف بين اليهود المتشددين واليهود العلمانيين حول أسبقية تعاليم الديانة اليهودية (کما يراها الحاخامات) أو المبادىء الديموقراطية. انعکس هذا الاختلاف على الإسرائيليين، إذ ترى الغالبية تقديم «الديموقراطية» على الشريعة اليهودية. ولوضع ضوابط ما لهذا الصراع، يجري الحديث عن أن اليهودية بوصفها ثقافة، تضم کل التيارات الدينية والتيارات المتحرّرة من الديانة أيضاً، وعن أنّ اليهودية کثقافة تتغير وتتنوع في خصائصها وسماتها.
وصل الحد ببعض الجهات إلى التماهي الحاد مع الأسطرة الدينية لدرجة نسيان التوحّش الذي هم عليه، ويصبح الاستبداد في نظرهم مقدساً كونه وسيلة لإشباع النهم والجشع في التوسع وممارسة الاضطهاد ضد حياة الناس وحقوقهم في العيش الكريم، فالاستبداد في نظر الآخرين هو عدل وحق في اعتقادهم، وخصوصاً إذا ما وضعوا أنفسهم في دائرة المظلومين، وهذا مع حصل ويحصل مع السياسة الإسرائيلية المجرمة بكل المقاييس والأعراف.
من المبالغات الدينية المتورّمة استحضار قصة العماليق من عمق التاريخ وتوظيفها في ما يحدث من عدوانية متوحّشة ضد الأبرياء والعزّل من الشعب الفلسطيني المقاوم والصابر والمرابط، فمن هم العماليق؟ يُعد العماليق أو العمالقة من العرب البائدة، يرجع نسبهم إلى عمليق بن لاوذ بن سام، معظم ما وصلنا عنهم جاء عن طريق روايات يهودية الأصل تعرف في المصادر الإسلامية بالـ «الإسرائيليات». وفقاً لليهودية، فإن موطن العماليق - أقدم أمة في العالم- هي أرض أدوم الواقعة بين خليج العقبة والبحر الميت (تكوين 36: 16).
تذكر أسفار أخرى من العهد القديم أن العماليق عاشوا في أنحاء شمال شبه الجزيرة العربية، من صحراء النقب غرب البحر الميت إلى مصر بما في ذلك شبه جزيرة سيناء ونجد. ترجع السجلات التوراتية الأولى لتاريخ العماليق إلى الربع الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد من زمن إبراهيم عليه السلام إلى ما بعد خروج بني إسرائيل من مصر. نعثر في القرآن على إشارة إلى هؤلاء القوم: «قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ» (المائدة: 22).
شكّل الموروث الديني عاملاً أساسياً في إشعال الكثير من الحروب


بحسب المتأوّلين والمفسّرين، فالجبارين هم العمالقة الذين يتميزون بضخامة الأجسام، وطولها غير العادي، حتَّى وضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم في العرض والطول ما يشبه الخرافات، وقد دخلت الإسرائيليات الخرافيّة ـ في هذا الموضوع ـ في الكتب الإسلاميّة، وقد ذكر المؤرّخون في الحديث عنهم، فقالوا: «كان العمالقة قوماً من العنصر السامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالى 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتَّى عام 1703 قبل الميلاد»، كما جاء في «دائرة المعارف» لفريد وجدي. وفي النصوص دعوة إلى محاربة العماليق ليس في التاريخ الغابر كما ورد بل في كل آن وجي: «فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جَمَلاً وَحِمَاراً» (1 صموئيل 15: 3).
ولكن اليوم بعد عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تصدّرت وسائل الإعلام عدد من تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين ذات الطابع الديني تهدف إلى توحيد الرأي العام الداخلي (الإسرائيلي). في المؤتمر الصحافي الذي عقده في الثامن والعشرين من تشرين الأول الماضي، قال رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو: «التوراة تقول لنا تذكروا ما فعل بكم عماليق، نعم إننا نتذكر ونحارب»، فهل ذلك إشارة إلى ما فعله قوم العماليق العرب ببني إسرائيل في حرب وقعت قبل ثلاثين قرناً.
كيف يمكن تبرير قتل الإنسان باسم الله؟ حتى ولو استحضرنا آلهتنا عبر تفجير العصبيات والأنانيات، فلن نكون إلا مرضى نفسيين لأي جهة انتمينا لا فرق، فحرمة الدم والعرض والكرامة على الله أهم بكثير من الدين نفسه، لا بل إنّ الدين الحق هو مؤكد لهذه الأمور وحارس أمين لها من وحشية الإنسان نفسه وإلا فهو دين إجرام. باعتقادي، ليس شعب الله المختار وليس العملاق إلا كل إنسان خلع ربقة العصبية من رقبته، وعاش إنسانيته بحق وحفظ كرامته وكرامة الآخرين، ومارس بحق واجباته تجاه نفسه وخالقه والحياة من حوله، وأعطى العدل والإحسان من نفسه لمن حوله، فليس الله كآلهة البشر له أحباء ويختار منهم حاشية وعمالقة، فقلوب المخلصين وأصحاب النفوس السوية الطاهرة هي محل عرشه. أما من تلطّخت يداه بالدماء فهو المطرود من رحمته الملعون في قاموسه.

* كاتب وأكاديمي