يقع المرء في حيرة بين الواجب المهني وهموم المجتمع وأولويّاته. رحيل شخصية بحجم عازف البيانو الإيطالي ماوريزيو بولّيني (1942) تستوجب ردّة فعل صحافية طبيعية، لكن الأوضاع المعيشية والشعور الإنساني تجاه غزّة وشبح احتمال الحرب على لبنان وألم الجنوبيين في الأشهر الأخيرة، تراكمت كلّها وسلبت الناس أي اهتمام خارج نطاق غريزة البقاء. الموسيقى هي أولوية في هذا السياق، لكنّ ذلك نابع من قناعة شخصية لا يمكن تعميمها على المجتمع، للأسف. أقله ليس في ظروف مماثلة. لكن عزّ فعلاً علينا أن يرحل هذا الموسيقي الكبير من دون توجيه تحية صغيرة إليه، كموقف نسجّله اليوم ليأخذ قسطه من الاهتمام ربما في المستقبل. عدا عن قيمته الفنية، يعد بولّيني مثالاً نادراً (في مجاله) في عدم امتناعه عن الانخراط في النضال السياسي متى دعت الحاجة الوطنية والإنسانية، ما يُكسِب التحية ضرورة إضافية.ماوريزيو بولّيني هو من عمالقة الجيل المولود في النصف الأول من القرن الماضي. شخصيته فريدة، وتزداد فرادة في زمننا الذي تراجعت فيه الطيبة والابتسامة البريئة والتواضع والتفاني والعمق الفكري بشكل عام، وخصوصاً عند زملائه في المهنة من الجيل الجديد. ولد في بيت فنّي ساعدته أجواؤه على بلوَرة موهبته بالاتجاه الصحيح. والده مهندس معماري، حداثي التوجّه، وكذلك خاله النحّات وعازف البيانو الهاوي. والده يعزف أيضاً على الكمان، ووالدته كانت مغنية وعازفة بيانو، وكذلك كان محيط العائلة بطبيعة الحال. في عام 1960، فاز بالمرتبة الأولى في «مسابقة شوبان» (تُعَدّ الأهم في فئتها)، يوم كان أسطورة البيانو (المختصّ بشوبان تحديداً) أرتور روبنشتاين مترئساً لجنة التحكيم، حيث يُقال إن الأخير همس لأعضائها المرموقين بأن الفتى الإيطالي «يعزف أحسن منّا جميعاً». بعد المسابقة، أتت الانطلاقة الطبيعية. انهمرت العروض على بولّيني لتقديم أمسيات حول العالم. لبى العازف الشاب هذه الدعوات قبل أن يدرك خطر الانشغال الدائم بهذا المجال، وفضّل العزلة لمدّة طويلة نسبياً (نحو عامَين) قضاها في التعمّق بالريبرتوار والأعمال الكثيرة التي سيؤديها لاحقاً في الاستوديو أو أمام الجمهور.
في أواخر الستينيات، دخلت إيطاليا في مرحلة فوضى سياسية وعنف مسلّح، عُرفَت بـ«سنوات الرصاص» (نهاية الستينيات حتى الثمانينيات) حيث كان النِزال في أوجه بين الشيوعيين واليمين الفاشي الذي قام بأعمال إرهابية بهدف نسبها إلى منظمات يسارية راديكالية لتشويه سمعتها وإعاقة المدّ الشيوعي إلى غرب أوروبا (تبيّن لاحقاً أن منظمات مدعومة سراً من الناتو والـCIA تقف وراء هذه القذارات، وهو ما يُعرَف بالـStay-behind الذي نشر طوابيره الخامسة في أوروبا الغربية، من بينها الفرع الإيطالي الذي حمل اسم «السيف»). شعر بولّيني بخطر الفاشية، فانخرط مع زملاء له في العمل السياسي (أبرزهم المؤلف الشهير لويجي نونو، الشيوعي الانتماء والراديكالي في هويته الفنية) ويُعتقَد أنه انتسب إلى الحزب الشيوعي الإيطالي في تلك المدة، علماً أن هذا لم يمنعه من مناهضة الاتحاد السوفياتي في بعض المحطات (اجتياح تشيكوسلوفاكيا مثلاً). كذلك، أحيا بولّيني أمسيات عدة مخصّصة للطلاب في إيطاليا (مع أعز أصدقائه، قائد الأوركسترا الراحل كلاوديو أبادو) لإيمانه بأن الموسيقى يمكنها أن تكون أداةً للوعي والتحرر. لكنه عبّر في السنوات الأخيرة من حياته عن الخيبة من عدم جدوى ذلك، وربّما مات مقهوراً، إذ آلت كل هذه النضالات إلى وقوع إيطاليا تحت تفاهة برلوسكوني قبل حين، ثم تحت الفاشية بقيادة جيورجيا ميلوني حالياً.
شعر بخطر الفاشية، فانخرط في النضال السياسي ويُعتقَد أنه انتسب إلى الحزب الشيوعي الإيطالي


في مطلع السبعينيات، وقّع بولّيني عقداً مع «دويتشيه غراموفون»، واستمرت العلاقة بينهما أكثر من نصف قرن، حتى آخر إصدار له في نهاية 2022، إذ ليس له أي إصدار رسمي خارج عباءة الناشر الألماني، باستثناء تسجيلَين أنجزهما لمصلحة شركة EMI، ويعودان إلى بداياته (من بينهما تسجيل «أوّل» لتمارين شوبان، بقي في الأرشيف منذ 1960 حتى 2011). أما حفلاته فكانت أيضاً كثيرة، وصدر بعضها رسمياً بفعل جودتها صوتاً وأداءً، إضافة إلى تلك المصوّرة (قليلة نسبياً). يُضاف إلى ذلك، الوثائقي الذي خصّه به برونو مونسانجون وحمل عنوان De main de maître (ببراعة)، لكنه أخذ شكل مقابلة مع بعض المواد الأرشيفية المصوّرة التي رافقت إجابات بولّيني على أسئلة المخرج الفرنسي العتيق. آخر إطلالة له كانت في لندن، حيث روى لنا أحد الأصدقاء الذين صادف حضورهم الأمسية، بأنها كانت مؤلمة لبولّيني وللجمهور، إذ خانه «العمر» في دهاليز الذاكرة من دون سابق إنذار، ما اضطره إلى الخروج عن المسرح والعودة إلى البيانو ومحاولة استعادة زمام الأمور، ثم الاستعانة بأوراق النوطة، في جوّ من الضياع وتقليب الصفحات من دون تركيز، ربما بسبب الصدمة. مشهدٌ حزينٌ، انسحب بعده بولّيني الجميل ليرحل بهدوء بعد أقل من سنة، تاركاً للأجيال القادمة ما وثّقه التسجيل من إبداعات حملت توقيع أصابعه وروحه.



إرثه الموسيقي
تمتّع ماوريزيو بولّيني بمتانة تقنية فولاذية ظاهرة في كل تسجيلاته وحفلاته، إضافة إلى عقل فنّي منفتح وواسع الاطلاع، ما جعله شخصية استثنائية في مجاله. لم يهمّش أي من كبار المؤلفين الذي كتبوا للبيانو، من باخ إلى القرن العشرين والمؤلفين المعاصرين. لكن حصة الأسد كمّاً ونوعاً في ريبرتواره وتسجيلاته الكثيرة تذهب إلى الحقبة الرومنطيقية بدءاً من جذورها مع بيتهوفن، الذي كان الأقرب إلى قلبه إلى جانب شوبان. للمؤلف الألماني سجلّ سوناتات البيانو الـ32 كاملةً، إذ بدأ رحلته بالسوناتات الخمس الأخيرة (28 — 32) التي تبقى مرجعاً عنده كما في الديسكوغرافيا عموماً، وأنهاها بعد نحو أربعة عقود (عام 2014) حيث أتت متفاوتة في القيمة، بين الممتاز والعادي. كذلك، سجّل كونشرتوهات بيتهوفن الخمسة مرّتَين، مع العملاقين النمسوي كارل بوم (3 و4 و5) والألماني أويغن يوخوم (1 و2) ورافقته «أوركسترا فيينا الفلهارمونية». ثم عاد وسجّلها مع مواطنه كلاوديو أبادو الذي قاد «برلين الفلهارمونية» في أداء حيّ. لشوبان سجّل تقريباً كل الأعمال الكبيرة (باستثناء الفالسات) كما عاد لاحقاً إلى بعضها في تسجيل ثانٍ، ويُعدّ أداؤه للتمارين الـ24 مرجعاً شبه مطلقٍ منذ أكثر من نصف قرن. من المؤلفين الذي شكّلوا أيضاً محوراً في مسيرته، الألمانيّان شومان وبرامز والنمسوي شوبرت، حيث قدّم تسجيلاتٍ مرجعية بالأخص في بعض أعمال شومان. أما في موزار، فقد ابتعد بوليني عن أعمال البيانو المنفرد، ليسجّل بعض كونشرتوهات البيانو والأوركسترا (ستة كونشرتوهات، اثنان بقيادة كارل بوم، ثم أربعة لاحقاً بقيادته من خلف البيانو) محققاً المستوى المطلوب من دون أن يتخطّى التسجيلات الفائقة الجودة. في الريبرتوار المسمّى «كبير» (الأعمال المكرّسة، منذ باخ) ثمة زلة قاتلة في مسيرة بولّيني تحمل عنوان «باخ»، الذي سجّل من ترسانته عملاً واحداً (well-tempered clavier — الكتاب الأول) وأتت النتيجة مخيبة. فرغم عشقه للمؤلف الألماني وقدراته التقنية التي سمحت له بأداء «كل ما أراد»، بدا «باخه» ثقيلاً، يحاول أن يطير لكنه يعجز عن التحليق نحو المنتهى. بالمناسبة، يبدو أن هناك مشكلة «وطنية» إيطالية مع باخ، إذ قلّما سجّل أو برع إيطالي أو إيطالية في أداء المؤلف الألماني (بالأخص على البيانو)، بخلاف الروس والجرمانيين (بطبيعة الحال) بالدرجة الأولى، وكذلك باقي الأوروبيين، وغيرهم (كندا، أميركا،…). هل لأنهم عاطفيون جداً؟ ربما. أحد الإنجازات الفنية المهمة في مسيرة بولّيني، من الناحيتَين الجمالية والأدائية، اهتمامه بمؤلّفي القرن العشرين والمدارس الحديثة، من الانطباعية الفرنسية مع كلود دوبوسي حتى الطليعية الراديكالية الإيطالية والألمانية مع لويجي نونو وكارلهاينز شتوكهاوزن مروراً بالمؤلفَين «الشرقيَّين» (بروكوفييف وسترافينسكي وبارتوك — تسجيلات مرجعية) ومدرسة فيينا الثانية التي سجّل الأعمال الكاملة (وهي قليلة ولا تزيد مدّتها عن الساعة) لمؤسسها أرنولد شونبرغ (تسجيل مرجعي).
في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 2022، صدر آخر ديسك لبولّيني وفيه يعود إلى بداية علاقته ببيتهوفن، إذ أعاد تسجيل السوناتتَين رقم 28 والعملاقة التي تليها. لم تكن هذه العودة مبررة كلياً، إذ لم يتخطَ الشيخ الثمانيني ما أنجزه الشاب الثلاثيني. لكن رغم بعض الضعف التقني أو بالأحرى «الجسدي» في الجمل الشديدة الصعوبة، ثمة لحظات ليس من هذا العالم في التسجيل الذي حمل غلافه صورة معبّرة لـ«الختيار» سانداً رأسه براحة يده كأنه يقول: هذه «أغنية البجع» خاصّتي، فالوداع.