حتى يومنا هذا، لم يتفكّك الحلف القديم بين العمل المقاوم والملصق، كفلسفة بصريّة مختلة عن الأمس، فالملصق لم يعد ملصقاً! تغيّرت حالات كثيرة في عالم الإعلام، فحضَر الضوء على حساب الورق، لتجهز «الملصقات» اليوم بكامل عناصرها: التصميم، الكلمات، الرسالة السريعة، تأريخ الحدث أو مواكبته. لكنه لا يأخذ طريقه إلى المطبعة، وبطبيعة الحال إلى الجدار، بل إنّ مكانه الطبيعي صار على منصّة تتفقّدها حواسيبنا وهواتفنا.
◄ سطوع نجم الفدائي
منذ بداياته، أخذ الملصق (بوستر) البعدين الإخباري والتحريضي، متّكئاً على الجمالية الفنّية (رسم، صورة، خط)، والرسالة السريعة (شعار، جملة، آية، مثل، خبر)، فأدّى دوره، وأثبت نجاعته على مدى سنوات في العالم، تحديداً مدة الصراع الطويل بين المحورين الاشتراكي، والرأسمالي، فكانت الملصقات وقتذاك كأنها أيقونات «الديانتين» الجديدتين، اللتين تقاسمتا الكرة الأرضية.

جامعة الدول العربية ـ وزارة الإعلام اللبنانية ـ 1986


◄ كتيبة الفنانين
في السبعينيات، بدأ العصر الذهبي للملصق النضالي، مطلّاً برموزه الخاصّة: الكوفية، المفتاح، المسجد الأقصى، بندقية كلاشينكوف، العلم الفلسطيني... برزت أسماء الفنانين في هذا المجال، فكان حلمي التوني، ومحيي الدين اللباد من مصر، ويوسف عبدلكي، وبرهان الدين كركوتلي من سوريا، وإسماعيل شموط، كمال بلاطة، سليمان منصور، وعبد الرحمن المزين، من فلسطين، ومنى السعودي من الأردن، ومحمد شبعة من المغرب، وعمران القيسي، كاظم حيدر، وضياء العزاوي من العراق، وكميل حوا، وسيتا مانوكيان، وإميل منعم، وبول غيراغوسيان، ومحمد الشاعر، ونبيل قدوح من لبنان، ورافايل انريكز من كوبا، وتوشيو ساتو من اليابان، ومارك رودين من سويسرا، وجاك كواليسكي من بولندا... كان الملصق خيطاً مركزياً في ثوب الرومانسية الثورية، عنصراً ضرورياً في عملية التعبئة والتثوير.

◄ لبنان توأم الجرح
منذ الأيام الأولى لاحتلال فلسطين، كان لبنان شريك الدم، وها هي مجزرة حولا تُرتَكَب في عام 1948، ولم تتوقّف الاعتداءات، وصولاً حتى «عملية الليطاني» في 14 آذار (مارس) 1978، ثم اجتياح عام 1982... فكان جنوب لبنان مركز الغليان، والعمل الفدائي، الذي استتبع بمؤازرة من الأحزاب اللبنانية، قبل أن تتشكّل «جمول» (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية)، فتبلور معها الملصق الذي حمل عناوين ورموزاً بخاصيات جنوبية.

الحزب السوري القومي الاجتماعي. تصميم دياب. 1977


◄ العصر «الذهبي»
مع بداية الحرب اللبنانية في نيسان (أبريل) 1975، اعتمدت أحزاب «الحركة الوطنية»، على الملصقات بإيقاع سريع، فرضته حماوة المعارك، وسقوط الشهداء، والمناسبات المتعدّدة الخاصة بكل حزب. أيضاً، لا يمكن إغفال الحالة التنافسية بين الأحزاب (ضمن الخط الواحد)، إذ يتحوّل الملصق مع العَلم، علامة على مساحة
التمدّد.
في المجمل كان الملصق منتجاً احترافياً، خصوصاً أنّ فصائل «منظمة التحرير الفلسطينية»، تمتلك خبرات أقدم، ولم تبخل بها على الحلفاء (وحدة الفن والثقافة الوطنية التابعة لـ «منظمة التحرير» تأسست عام 1965 بإشراف الفنان إسماعيل شموط).

حركة أمل. تصميم نبيل قدوح (عريس الجنوب). 1984


◄ القومي السوري
حملت ملصقات «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، شروط الهويّة البصرية، باعتمادها على ألوان الحزب الثلاثة: الأسود، الأحمر، والأبيض، كما لم تعتمد الرسومات إلّا في ما ندر، مكتفية بالصور الفوتوغرافية للأماكن، أو للشهداء، أو للزعيم أنطون سعادة، مع خارطة سوريا الطبيعية. من فنّاني القومي، تموز قنيزح، وكميل بركة، وقد يتشاركان في تصميم ملصق واحد، مثل ذلك المتضمن لصورة شهيد الحزب في الجنوب وجدي الصايغ، وقد عنونا الملصق بجملة من إحدى أناشيد المقاومة الوطنية: «مقاومة مقاومة بالنار لا مساومة». أما الفنان م. حيدر، فقد رسم الملصق المواكب لأسبوع المرأة المقاوِمَة، وهو تكرار لوجه الاستشهادية سناء محيدلي، في سياق تعبيري هادئ، كأن سناء في فردوس أعلى، متجاوزة للحظة التفجير بما يتضمنه من دم وحديد ونار.

◄ الشيوعي
لم يلتزم الحزب الشيوعي اللبناني بشكل محدّد لملصقاته، فكانت متنوّعة كل التنوّع، وإن كان هناك من هوية لبعض الأعمال، فنستطيع الإشارة إلى تلك التي نفّذها فنان واحد، أي هي هوية الفنان، وليس الملصق كفلسفة شاملة. من هؤلاء المبدعين، نذكر إميل منعم الذي قدم لغة تشكيلية عالية، مكتملة شروط الملصق من رسالة سريعة، وجملة خاطفة، وخطوط جمالية مكثّفة، ومجرّدة من الزخارف. لوحات بول غيراغوسيان حملت خصوصية بصرية كذلك، فهي منفّذة بالأحمر والأسود، بضربات فرشاة انفعالية، سريعة، ومجرّدة، مثل ذلك الملصق المعنون بـ «المجد لأبطال قلعة الشقيف ـ أرنون» التي رسم سماءها بالأحمر المائل للبرتقالي، بينما القلعة سوداء (سلويت) في مشهدية تفاعلية ملحميّة، تؤرخ للحظة المواجهة. الجانب التأريخي كان حاضراً في ملصق للحزب (مجهول المصمم)، مبني على صورة فوتوغرافية لمبنى مدمّر، تحمل عنوان «عملية تدمير إذاعة العميل لحد 17/ 10/ 1985»، تتوسطها صور الشهداء الأربعة الذين نفذوا العملية. في المجمل، كانت ملصقات الشيوعي ناضجة المحتوى، والتنفيذ، مشغولة بأيدٍ محترفة، ذات عمق تشكيلي.

حزب الله. تصميم عادل سلمان. 1987


◄ منظمة العمل
اعتمدت «منظمة العمل الشيوعي» باكراً على الفنانين الذين يرفعون من مستوى الرسالة البصرية، فكانت خبرات الفنان المصري حلمي التوني، حاضرة في عدد من ملصقات المنظمة. تحت عنوان «السلام الأميركي الإسرائيلي في لبنان»، رسم التوني طائرة حربية، تُسقِط القنابل على بيت جنوبي، يقف طفل على بابه، بينما يقوم الأب والأم بحماية البيت من الناحيتين، بحيث يحضنان الجدار، وباليد الثانية الأشجار المحيطة للبيت. في باقي ملصقات المنظمة، نلاحظ التكامل التشكيلي، وتوازن العناصر، ووضوح المضمون المتمحور بين العمل المقاوم، والصمود، ومساندة الأسرى، وتكريم الشهداء، مع لحظ الأبعاد الإمبريالية للصراع، فلا يتموضع الخطاب عند حدود العدو الإسرائيلي، الذي يمثل الواجهة ليس إلّا.

◄ الأحزاب العروبية
كثيرة هي الملصقات التي أصدرتها حركة الناصريين المستقلين «المرابطون»، ومنها ما آزر الجنوب وقضيته وبوعي تشكيلي وخطابي، بعضها مشغول بأسلوب كاريكاتوري تقليدي. أما التنظيم الشعبي الناصري، فقد أنتج عدداً من الملصقات الحاملة للهمّ الجنوبي المقاوِم، كما بوّابته صيدا، فكان التعاون مع فنّانين محترفين، كالصيداوي محمد علي الخطيب. بدوره، أصدر حزب «البعث العربي الاشتراكي»، ملصقات متنوّعة المضامين، غالبيتها لشهدائه على أرض الجنوب كحال الشهيد عصام عبد الساتر، الذي نفذ عملية مثلث كفرحونة. بورتريه الشهيد مرسوم بدقة كلاسيكية عالية، حال بعض الملصقات المشابهة، بينما اعتمد في الأغلب الأعمّ على الصور الفوتوغرافية. بدوره، تعاون «الاتحاد الاشتراكي العربي»، مع الفنان كميل حوّا في بعض ملصقاته ذات المضمون الجنوبي، المقاوم، مع شعارات لجمال عبد الناصر.

◄ الحزب التقدمي الاشتراكي
استند الحزب التقدمي الاشتراكي في ملصقاته على بورتريه مؤسس الحزب، كمال جنبلاط، وحين كانت تأخذ تلك الملصقات البعد الجنوبي، الفدائي، والمقاوم، كان الاستناد إلى أقوال جنبلاط، التي تحمل أبعاداً أممية، تنطلق من الجنوب، وتحاكي باقي القضايا، مثل هذا الملصق «تحرير الجنوب مهمة جميع الوطنيين والبندقية الوطنية لن تتراجع». ملصقات الاشتراكي، متنوعة الأساليب، من دون ارتكاز على هوية، أو فنان، فكان التعاون مع التشكيليين: عارف الريس، جميل ملاعب، محمود زين الدين، حسيب الجاسم، أسامة حديب، نبيل قدوح...

المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. تصميم ناظم إيراني. 1981


◄ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
نكاد نجزم أنّ أفضل الملصقات وأجملها، وأكثرها تنوّعاً لناحية قضايا الجنوب، هي تلك التي أنتجها «المجلس الثقافي للبنان الجنوب»، فكان التعاون مع فنانين من مشارب عدّة: موسى طيبا، بول غيراغوسيان، عماد عيسى، فارس غصوب، محمود أمهز، وناظم إيراني. اللافت كان احتفاظ المجلس بغالبية تلك الملصقات التي أصدرها، وهي تزيّن بعض جدران مركزه الرئيسي في بيروت، وكانت منطلقاً لكلّ دراسة تبحث في الملصق اللبناني خلال مدة الاحتلال، والمقاومة، أو الحرب الأهلية، مثل كتاب زينة معاصري «ملامح النزاع» القيّم (صادر عن «دار الفرات»).

◄ وزارة شؤون الجنوب
تعاونت وزارة شؤون الجنوب، في الحكومة اللبنانية، مع فنانين لإنجاز ملصقات تحاكي قضايا الجنوب، من صمود الأهالي، إلى المعتقلين، وشتلة التبغ، والعمل المقاوم، وشؤون المزارعين، والصيادين. من تلك الملصقات، واحد موقّع باسم «ابن الجنوب» رسم فيه النجمة السداسية، يحتل وسطها الصليب النازي المعقوف، وعند أطراف النجمة، بلطات ملطخة بالدم، ليكون العنوان المرافق «النازية الجديدة مرّت بجنوب لبنان». أما المفارقة، فقد جاءت من ملصق مدعوم من جامعة الدول العربية، ووزارة الإعلام اللبنانية، يحمل شعار «5 حزيران (يونيو) يوم التضامن مع الجنوب اللبناني والمقاومة الوطنية».

◄ مبدعون في خدمة القضية
كثيرة هي الجهات التي واكبت المقاومة الوطنية والإسلامية، عبر المطبوعات المتنوعة، والملصق من ضمنها، فكانت هناك عشرات الملصقات لـ «تجمع العلماء المسلمين»، الذي طرح ملصقات لا تبدأ من شجب اتفاق 17 أيار، ولا تنتهي عند استشهاد الشيخ راغب حرب، ويوم القدس العالمي، ويوم الأرض... أيضاً هناك «تجمّع معتقلي أنصار»، بملصقات تعبيرية، برع فيها الفنان الجنوبي شربل فارس، المعروف بأسلوبه التنقيطي، أمّا «هيئة التضامن» مع صيدا، فكانت ملصقاتها موقّعة بغالبيتها من التشكيلي عمران القيسي، الذي رسم مجموعة من الأعمال الفنية المتقاطعة بين الحروفية، ورموز صيدا السيميائية، كالقلعة، والبحر، والمراكب. بالنسبة إلى الفنان محمد الشاعر، كان خير مَن قدّم الملصق، واللوحة، المستلّة من روح القضية الفلسطينية، والجنوبية، وهو ابن المكانين، كونه من إحدى القرى السبع.

◄ حركة امل
مع انطلاقتها عام 1975، تعاونت «حركة أمل» مع عدة فنانين، لتصميم ملصقاتها، أبرزهم رفيق شرف، الذي صمّم ألوان علم الحركة، فقدّم بعض الأعمال الخاصة بالقضية التي يطرحها عنوان الموضوع المطروح في الملصق، بينما اعتمد في أحيان كثيرة لوحات جاهزة له، أضيف عليها شعار، أو عنوان، أو آية قرآنية.
تعاون الحركة مع الفنان نبيل قدوح، جاء بمحض المصادفة، بواسطة صديق مشترك، فرسم لهم روزنامة عن الجنوب، تحتاج إلى 12 لوحة، فشاعت، وانتشرت بكثرة، ليصبح قدوح الرسام المواكب لجلّ منشورات الحركة التي نظمت له جولة في بلدان عدة مثل أميركا، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، عرض خلالها ملصقاته على المواطنين، والجاليات العربية هناك. تنوعت ملصقات قدوح بين تأريخ الفعل المقاوم، مثل ملصق «عريس الجنوب» بلال فحص، و«طيراً أبابيل...»، كما رسم ملصقات للمعتقلين، و«الذكرى السنوية لتدمير حانين»، كذلك رسم في السابق للحركة الوطنية غالبية مطبوعاتها، فكانت بعض الملصقات كاريكاتورية المضمون، مثل عملية نفخ الإسرائيلي لبالون سعد حداد، تحت عنوان «...ويبقى دمية».

◄ حزب الله
منذ منتصف الثمانينات، اعتمد «حزب الله» مأسسة جهازه الإعلامي، فكانت الأعمال الفنية مثل الرسوم على الجدران، واللافتات، والملصقات، جزءاً طبيعياً من مهمات المكتب، وكانت لفناني الحزب منطلقات بصرية عدّة، منها تراث «وحدة الفن والثقافة الوطنية التابعة لمنظمة التحرير» والتنوع في ملصقات الحركة الوطنية، لكن دور الفنانين الإيرانيين كان أكثر تأثيراً، فهناك دورات مكثفة أجريت لفناني الحزب، وكانت هناك ألبومات ومراجع، وملصقات، يعودون إليها. تميزت ملصقات المقاومة الإسلامية باعتمادها اللوحة التعبيرية الملونة، المكتملة الشروط من الكتلة إلى الظل والنور (عادل سلمان، أحمد عبدالله، يوسف صقر...)، أو تلك الثنائية الأبعاد أو الألوان (مرعي مرعي، محمد إسماعيل...). في مضامين تلك الملصقات، الرسائل شديدة الوضوح، في قوالب تعبيرية رومانسية حين تكون الشهادة جوهر الملصق، فتظهر نفحات فردوسية، مثل الزهور، والحمامات البيضاء، والنور المشع من السماء، والرايات البعيدة المرفرفة...

◄ ويستمر الملصق
منذ أكثر من عشرين عاماً، ولأكثر من سبب، اتخذ «حزب الله» قراراً بإيقاف إنتاج الملصقات كتصاميم مطبوعة، بينما بقي «الملصق» حاضراً في دوائره الإبداعية، مُنتَجاً دورياً، وحدثياً، له مكانه ومكانته في جميع المناسبات التي يحييها، وفي كواليس العمل، ثمة اجتماعات، وعصف فكري، لتحقيق الغاية التي تتناسب وسياسات الحزب، لذلك كانت ولا تزال «ملصقات» عيد المقاومة والتحرير، حاضرة سنوياً، بإيقاعات تشكيلية حديثة، وشعارات متقشّفة، من كلمتين، أو ثلاث، لتحضر في وسائل الإعلام الكلاسيكية والحديثة، على الشاشات، كما «بانويات» الشوارع. اللافت أنّ هذه التصاميم غدت أكثر عمقاً، بملاحظة أنواع الخطوط، ودلالات الزخارف، والمقاييس الهندسية، ورسائل الفكرة التي غالباً ما تمتلك ثنائية الجذور (التراث)، والثمار (الحاضر)، ضمن ثنائية ثانية: الأبعاد الوطنية، والعقائدية.