رحل يعقوب الشدراوي قبل أن يرحل فعلاً. أجبره المرض وتغيّر الزمن على الترجّل عن خشبة المسرح. المسرح نفسه تراجع في المدينة التي كان جزءاً من صورتها كمختبر للحداثة والأسئلة الطليعية. المسارح نفسها التي ساهمت في إعادة الحياة الثقافية في بيروت باتت مقفلة أو مكتفية باستضافة عروض شحيحة، بعد توقف عجلة التمويل الذاتي والبرمجة السنوية التقليدية. كأن الشدراوي أُجبر على الاعتزال مبكراً. يَصدُق ذلك عليه كما يصلح على لطيفة وأنطوان ملتقى ومنير أبو دبس وبرج فازليان وجلال خوري، بل يصدق أيضاً حتى على الجيل الذي تلاهم مباشرة، كما في تجارب سهام ناصر ورئيف كرم اللذين قدما أعمالاً لافتة، وتوقفا فجأة.
داخل هذه الصورة، عاش الشدراوي سنواته الأخيرة على أمجاد الماضي. بالنسبة إلينا، هو صاحب «أعرب ما يلي» باكورته التي وضعته في الصف الأول مع الجيل الذهبي للمسرح اللبناني الحديث. كان ذلك بداية تغريبته المسرحية التي ستشهد محطات مفصلية مماثلة في جودتها وتجريبيتها وأسئلتها. من «الطرطور» التي اقتبسها عن نص «الفرافير» ليوسف إدريس، ومزج فيها الكوميديا الإيطالية مع واقعية بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي، إلى «المهرج» التي أخذها عن الماغوط، وعاد بها إلى زمن الهزيمة الحزيرانية، إلى «يوميات مجنون» لغوغول التي وضع فيها خلاصة ما تعلمه من ستانيسلافسكي والواقعية الروسية. إلى جوار التجريب والعبث في تجارب عدد من أقرانه، عُرف الشدراوي بكلاسيكيته في العمل على الممثلين، وبناء الفرجة والصياغات الإخراجية. لم يمنعه ذلك من التجريب والتنويع، ولكنه ظل على صلة بالمادة الأدبية التي تحتويها النصوص، وتعكس موقفاً سياسياً وفكرياً. كانت أعماله ترجمة بصرية لأفكار الكتابة بالتوازي مع كونها فُرجةً وتمثيلاً وأسلوباً في العمل. ولعل اختياره «حكاية فاسكو» لجورج شحادة في مشروع التخرج كان بدايةً لهذا المزاج الأدبي الذي جعله يشكو من ضعف التأليف المسرحي في العالم العربي. الصفة العربية تذكرنا بتجاوز الشدراوي للبنانيته بالعمل على نصوص مصرية وسورية. صفةٌ تعززت باختياره لإلقاء كلمة يوم المسرح العربي سنة 2008، وحضوره في مواعيد المسرح، وخصوصاً «مهرجان دمشق» التي كانت له فيها مشاركاتٌ وصداقات، واحدة منها مع الراحل فواز الساجر (1948 ـــ 1988) الذي حظي بتحية خاصة في عرض بعنوان «عيد ميلاد بعد الموت» أخرجه الشدراوي عن نص للكاتب الأميركي ثورنتون وايلدر. لعل هذا كله يقوّي فكرة أن الشدراوي رحل في زمن غير الزمن الذي شهد تألق تجربته، بينما تتضاعف خسارتنا بفقد جزء من الاحتياطي المسرحي للمدينة التي أدارت له ظهرها قبل غيابه بسنوات.