يرى الكثيرون أن ما حدث في مصر يمثل إمتداداً ثورياً للثورة المصرية التي بدأت في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011، ولكن ثمة إختلافات جوهرية في كامل الأداء على الأرض له تبعاته وعلاقاته ، يمكننا من القول بناء عليه أن الحلبة السياسية بدت مختلفة وإن لم يتغير لاعبوها كثيراً.
فقد قفز الإخوان وفرق الإسلام السياسي على الثورة التي أصابها من التحريم الكثير في أدبيات بعضهم باعتبارها خروجاً على الحاكم (كالسلفيين) وما في ذلك من إستدعاء قراءات سلطوية براغماتية وليست قيمية، أسست للكثير من الملكيات الوثنية في عالمنا العربي في حين عتبرها اعتبرها آخرون أنها ليست من شيمهم وأساليبهم الإصلاحية غير الثورية (الإخوان المسلمون، وخطابهم المصلحي في جسد الأنظمة العربية).
ولعله من الضروري معرفة البنية المعرفية والعقدية التي أسست كيانات كالإخوان المسلمين في مجتمعاتنا ومؤسساتنا لمعرفة سيرورة الأحداث "الثورية". فجماعة الإخوان التي بدأت كدعوة هوياتية (وليست أيديولوجية بالمنطق النفعي/ المصلحي بالمطلق) في مواجهة الدولة الحديثة، سرعان ما أصبحت بنية مرآوية لها، وصلت في أعلى مراحلها لما أسماه –أو يقترب منه- المفكر عبد الوهاب المسيري بـ"الجماعات الوظيفية". ولننظر في ذلك إلى خطابات و مواقف رموز الجماعة التي أعلنت أن العلاقة بينهم وبين النظام السابق، لطالما كانت علاقة مقايضة منافع.
لذا بات من المنطقي أن يسرع عمر سليمان إلى مفاوضتهم في أحداث 25 يناير بشأن الإنسحاب من الميدان من جهة من دون أن يتنازل عن أدبيات خطاب نظامه منذ عقود في شيطنة الترس الأهم فيه وهو الإخوان المسلمون، عندما حذر رموزاً من الثورة شبابية قائلاً: "إذا لم تقبلوا بالإنسحاب فسيسرق الإخوان المسلمون منكم ثورتكم".
الإخوان المسلمون الذين تحول هوسهم بالسلطة والتمكين والحكم إلى حالة من "الدعوة" له بشكل "طهوري" و"تخليصي" للعالم المسلم؛ مما استلزم خلق وحدات يسهل تحريكها لخدمة أهداف التمكين والسلطة ، مكونة من جماعات أصغر فيها أفراد تم تعريضهم لما تسميه أدبياتهم ـ بحسب سيد قطب ـ "الأسلمة" و"خلق الفرد المسلم" على أساس "الحاكمية" وتحويله إلى "إسلامي" (بدأت أدبيات أخرى تصوغ تلك التصنيفات بشكل حداثي إجرائي بـ"الإسلامي الأصلي").
وهنا باتت الجماعة في أمس الحاجة لاستحضار آليات السلطة والخطاب ، والغسيل الأيديولوجي التي حاربتها في الدولة الحديثة، وباتت ذئباً في محاربة الذئاب. ولعل حالة التماهي بين الدولة المباركية والدولة الإخوانية تشي بالكثير، فحاجة الإخوان لمؤسسات الدولة التي لطالما –كما يقولون- حاربوها باتت أكبر من "تطهيرها" (بحسب مطالب الثورة)، فباتت وزارة الداخلية بحسب تصريحات مرسي "أبطال مشاركين في الثورة المصرية"، وبات العسكر الذين إعتُقل في فترتهم الإنتقالية من شباب الثوار ما فاق عدد المعتقلين السياسين في فترة مبارك كاملة ويزيد، أبطالاً ومستحقين لأنواط التقدير ، وبالتالي أُسقطت في حقهم كل القضايا والملاحقات. وبات تأليه سلطتهم الإقتصادية والمجتمعية (وبالتالي السياسية) واجباً مؤسساتياً، دستره الدستور الإخواني و قنن له.
بات المشروع الثوري الإخواني القالب بعد مشروعهم الإصلاحي في عصر مبارك ومن سبقه، إنما هو إمتداد عضوي للدولة العميقة و مؤسساتها الفاسدة. فكانت الحاجة لإبدال وجه بوجه، باسم الثورة، كما حدث مع "النائب العام المصري" وزير الثقافة ورجال الأعمال، في ما عرف بأخوانة الدولة، وهو في ذاته كان مشروعاً لإعادة توجيه الفساد السابق وليس حتى ترشيده.

(2)
ومع إندلاع الحركة المجتمعية الشعبية في الثلاثين من حزيران (يونيو) الماضي، باتت البنية الهرمية الأفقية التي أنشأتها النخب الحاكمة (الإخوانية) عرضة لنفس إشكالية الحركة في المواجهة الساسية، التي تعرضت لها دولة مبارك قبلها على يد حراك مجتمعي أفقي أكثر مرونة من المؤسسة الرأسي، تمثل في حركة "كلنا خالد سعيد" التي كانت أكثر مرونة وقدرة على المواجهة والتحرك في مواجهة وزارة الداخلية المصرية في الأيام الأولى من ثورة 25 يناير 2011، وهو ما إنتهى بمشهد هرب المؤسسة/ الداخلية أمام المجتمع كاملاً برغم كل تلك القوة المادية الرادعة، والإفراط في القتل والسحل والترهيب.
باتت الحاجة أكبر لكسر تلك البنية الأفقية المجتميعة لصالح المؤسسة/الدولة، وهنا تم نقل ذلك الحراك الثوري إلى فضاء خطابي ذي رصيد أكبر في المخيال الجمعي المصري (والعربي) وهو المؤسسة الحاضنة لكل المؤسسات وهي المؤسسة العسكرية. من منا يتناسى المشهد السينمائي للمتحدث باسم المجلس العسكري وهو يؤدي التحية العسكرية للشهداء! وهو ما سهل على العقل الجمعي المصري إستقبال أولى عمليات تحويل الثورة كحراك أفقي/ مجتمعي إلى حراك هرم/ مؤسسي وهو الإستفتاء على التعديلات وما تلاه.
كل ذلك سهل على العسكر تثمين هذا الهرم لصالح الهرم الأقرب من حيث البنية لدولة مبارك، وهو ما سهل قفز الإخوان، وهو ما يعرف في أدبيات الثورات "أقرب الثوريين إلى الطغاة بعد الثورة" أو "الإنتكاسة الثورية الأولى"، وما تلا ذلك من دفع الإتاوات للعسكر.
مع عودة الحراك المجتمعي لنشاطه الثوري بآلية وسيطة (من أدبيات الثورة وجود وسائل وسيطة ثورياً)، وهي "حركة تمرد" التي رفضت إغراءات المأسسة والحزبنة والرأسية ، فظلت حراكا أفقياً لا أيديولوجياً مجتمعياً، ولكن بشكل أكثر ديناميكية من سابقته "كلنا خالد سعيد"، بأن نزل إلى الحيز/الفضاء العام/ المديني/ المجتمعي، وهو ما حفز الناس أكثر على مساس موجة تالية من الثورة؛ تُعرِّف الثورة والثوار إلى المجتمع المصري المنهك من تبعات تركة مهترئة وإدارة إنتهازية، إستغل أسمى عواطف المجتمع وهو الدين (محولة التدين إلى تطور مصلحي سياسي، مؤكدة على خطاب الأنظمة العربية الديكتاتورية)، وهو مافشلت فيه النخب السياسية وأحزابها وتجمعاتها ، لأنها ما زالت –كما فعل الإخوان- تستبطن خطاباً مصلحياً و ليس قيمياً باسم الثورة، جاعلة من فلول الأمس ثواراً.
وهنا باتت المؤسسة العسكرية التي لاتزال تمثل مخزوناً معنوياً عند الشعب، أفاده خطاب السلطة الإخوانية وإنهاك المجتمع، في استفزاز الشعور الأبوي/الجنوسي /الفحولي (بالقوة) لدى عامة الناس، لإبدال الهرم الإخواني المابعد ثوري (!!) بهرم آخر. وفي ظل عدم إدماج الحراك الشبابي بشكل معبر في العمل السياسي لأسباب أغلبها موضوعية وليست ذاتية أبداً، أصبح الهرم السابق لدولة مبارك، بعد إعادة غسيله ثورياً وبقليل من عمليات التجميل والترقيع، على يد السلطة -التي كانت- حاكمة (الإسلام السياسي) والنخب السياسية الثورية، هو الأقرب للموقع . (أنظر ما أصاب رموزاً بفساد الزند وعمرو موسى والنائب العام على يد النخب السياسية من مسٍ ثوري، و ما أصاب قتلة كالمجلس العسكري ورموز مبارك ومؤسساته من تكريم على يد مرسي و أهله وعشيرته).
وتجدر ملاحظة كمية الإبتزاز المؤسسي لعاطفة الوطنية المصرية، كأنها عطية مؤسسة وليست إيماناً فردياً ، دفع الكثير من الشباب والفتيات في مصر ثمنه أرواحهم وأجسادهم وكراماتهم، باتت في حاجة إلى تأكيد أكبر مما أبدته المؤسسة في الموجة الأولى من الثورة من تحية عسكرية للشهداء تلفزيونية بشكل مبتذل، فطارت الطائرات لتحمل أعلاماً مصر وتلقيها على الجماهير في الميادين، وبدأت الإستعراضات العسكرية في أماكن مختلفة من الفضاءات المدينية المجتمعية في تطور من حيث المواجهة يشي بأن المؤسسة الأكثر فساداً في البلاد باتت على دراية بحجم تغلغل الخطاب الثوري وقوة حس المصريين بالتمرد على حساب أبويتها وسطوتها العاطفية التاريخة، فباتت الحاجة لدخول تلك الفضاءات هامة، وهو بذاته يثير التأمل إن لم يكن التفاؤل. وهو ما يثبت أن القوة كانت للشارع وليس للمؤسسة العسكرية التي لم تحركها دماء المصريين سابقاً بقدر ما حركتها مصالحها المدسترة، وهو ما يعني أن ما حدث ليس إنقلاباً عسكرياً، إنما إطاعة –غير بريئة- من المؤسسة العسكرية لمطالب الأقوى، وهو الشارع الثائر إلى حين.
(3)
بعد قرار القوات المسلحة باعتبارها "رصيدًا" و "بيتًا للوطنية" (!!) بإقالة محمد مرسي، و تحقيق مطالب الشعب، أضحت فئة لا يستهان بها واقعة في مساحة بينية، مواجهاتية بين مؤسستين معقدين هيراركياً ولكل منهما خطابه، وهم شباب تيار ما يسمى بالإسلام السياسي بين مؤسسة الدولة ومؤسسة الحزب (الدولة سابقاً).
فبقاء تلك المجموعات من شباب مصر المشاركين في ثورتها، في ذلك الفضاء البيني، إن طال سيعيد إنتاج خطابات ومواريث شيطنة المجتمع (التي أسست لها أدبيات قطب وغيره) وستستحضر صور الطهرانية والمهدية الحزبية (نسبة إلى المهدي المنتظر) معيدة هؤلاء الشباب و قوتهم الفردنية والمعنوية والإنسانية إلى حالة من استعذاب المعاناة والتضحية في ظل سياق ثوري شاركوا فيه ودفعوا مع من دفع دمهم فيه (بعيداً عن الأثمان).
وهنا تظهر الحاجة إلى إعادة إستيعاب هؤلاء الشباب (وليس قياداتهم الكهلة) والإستفادة من تجربة عام سياسي –على علاتها- وبالذات بعد تنامي أحجام موجاتهم الثائرة على قياداتهم الديناصورية (والتي أنشأت تجربة عبد المنعم أبو الفتوح و حزب مصر القوية، على ما عليه من مآخذ ثورية وسياسية وخطابية). وما لم يحدث ذلك، فسيسهل على المؤسسات المستفيدة من هذه التصفية السياسية والمجتمعية لمجموعات شبابية كانت ضمن موجة الثورة الأولى وكان لها دور فاعل فيه، دفعت ما دفعه غيرها من ضريبة الفساد والظلم. وما في ذلك من إعادة إنتاج لخطاب يتقاطع فيه المستشرقون والوهابيون والرجعيون والديكتاتوريات العربية من شيطنة الإسلام. كما سيضمن إعادة إحياء خطاب "المجموعات الوظيفية" السالف الذكر، الذي تنتفع منه المعابد والكهنوت لإنتاج مقاتليها وآلهتها وتكفيرييها، ويستفيد منه الحاكم في تأليه سيفه وتبرير الهراوة والزنزانة.
(4)

بمجرد إعلان إقالة مرسي وجماعته، بدأت تحركات الدول الداعمة للدكتاتوريات العربية وأجهزتها الخطابية تتحرك بشكل أعمق وأكثر مباشرة، في ظل حالة غسيل الفلول ثورياً (على أيدي النخب الإخوانية و الثورية معاً). فلم يكن من المستغرب أن تكون السعودية و الإمارات من أول الدول التي رحبت بهذا التغيير، مستفيدة من العوم على خطاب الشعوب العربية الثوري إنتقائياً وتصدير صور توريث شبابية على أنها ديموقراطيات شبابية تتناسب مع الحراكات الشبابية، من دون إغفال دور الذاكرة في التأكيد على مواقف تلك الحكومات في دعم الأنظمة التي أسقطها الشارع العربي سواء دعمًا بالدفاع و المال (يُذكر أن أكثر من نادى بالدفاع عن مبارك وبراءته هو الملك السعودي و نتنياهو معاً، مطالبين واشنطن باعطاء المخلوع الضوء الأخضر لتصفية من هم بميدان التحرير أو رغبة ملكياتهما في شراء "الفيسبوك").
وهذا التناقض بين الخطاب المدعى ثورياً وعروبياً و إنسانياً (على صورة آراب أيدول) يتناقض مع واقع مجتمعات تلك الدول؛ فالدولة التي يجب أن تكون مؤسساتها هي المسؤولة عن ضمان الدوران الطبيعي للعلاقات وإداراتها بين أفراد وجماعات تلك المجتمعات (سواءا في صورة "دولة كل قومياتها" أو "دولة كل مواطنيها")؛ قد وضعت المجتمع في مرحلة أدنى من المؤسسة؛ وهو ما يضمن جعل الخطاب الثوري استحواذاً نفعياً لتلك المؤسسات/الدولة و ليس للمجتمع/الشعب لضمان إستمرارها بما يضمنه ذلك من عدم إنقلاب السحر/ الثورة على الساحر/ من يدعي الثورة.
وهو السحر الذي تتمنى تلك الدكتاتوريات أن يكون درعاً وحامياً لها من ثورات شعوبها، في الوقت الذي تستضيف فيه الطغاة وتأويهم وتدافع عنهم. والهدف من كل ذلك تفريغ الشحنات الثورية "المجتمعية" خطابياً لضمان تعاطف المجتمع –شكلياً- مع المؤسسة المنتجه لذلك الخطاب.
ولعل دول البترودولار التي وصفها معاذ الخطيب أنها ترسل من لا تريده من شبابها وما يحمله لها من مشاكل لم تستطع حلها، ليقضي في سوريا فتتخلص منه (وما صاحب ذلك من تسريبات لوثائق حكومية رسمية أثبتت ذلك)؛ نجد فيها أن المؤسسة تحتكر الفعل والخطاب الثوري بل تنتفع منه، وتمنعه عن المجتمع، تفادياً لخلق حالة من الحراك الأفقي الهادم لجميع الكيانات الرأسية/ الهرمية/ المؤسسية. تقبض قوات الأمن في تلك الدول على أي متظاهر سوري معارض لنظام الأسد،
لينتهي الأمر طبيعياً أن تهنئ المعارضة السورية التي تحارب التوريث والطائفية في بلادها توريثاً وطائفية في بلاد أخرى، طالما أنها تستفيد منها سياسياً، ولو كان الثمن حرية التعبير. وهو ما نراه واضحاً في إزدواجية دفاع الإسلاميين عن "الدولة الحديثة" في مصر، في مقابل مهاجتمها ومؤسساتها كما حدث في حادثة صيدا في نفس الوقت. (يذكر أن الإسلاميين هم أكثر من هاجم و نقد بل شيطن الدولة الحديثة بداية من نقد العمل الحزبي كما فعل حسن البنا وصولاً إلى تكفير الدول والمجتمعات كما سيد قطب).
تلك الدول التي استدعت وسائل ضغط شعبي لخلق حالة من الطرق والسحب لمجتمعات ثورية مجاورة (أول تصريحات دول البترودولار هو دعم بند الطاقة المصري: "البترول و الكهرباء و الغاز") و تلك هي الوسيلة السياسية الأبرز، لتطويع الشعوب، واستغلال معاناته المابعد ثورية (كما يوضح تغلغلها في المشهد السياسي المصري وجود ممثل لحزب النور السلفي في خطاب إقالة مرسي الأخير، كإعتراف بتغلغل الوهابية الظلامية في منبر من منابر الأشاعرة وهو الأزهر)... لتتحول الثورة من حيز القيمة المطلوبة وإن بدت مستحيلة ، إلى حيز الممكن والمتاح سياسياً، أي إلى حيز المقايضة. وهو حيز العلاقات السياسية والحزبية وليست العلاقت المجتمعية الإنسانية.
كأن تصبح القوات المسلحة المصرية (ومن وقف مسانداً لها) في صف الثورة، متعامين عن الدم على فوهات بنادقها وهراواتها، والأعراض المغتصبة والمنتهكة على أكتفاها، إلى جانب بنية إقتصادية وإجتماعية أنتجها التشوه الساداتي للعقيدة العسكرية المصرية في كامب ديفيد، وتحويل المصلحة المادية والإقتصادية والإجتماعية (كالميزانية الصناعية والتجارية والتسليحية واتفاقيات التسليح وغيرها) وطناً يصبح كل ما دونه عدواً. وما يصحب ذلك من استحضار صور الخطاب القطري المقيت (كشيطنة الفلسطيني عموماً والغزاوي خصوصاً و كل حركات المقاومة في المنطقة، في امتداد نفعي ومصلحي يوظف القطرية والطائفية لخدمة الدكتاتوريات التي تُعَرف نفسها بالآخر العدو الذي يبرر وجودها، و صلاحياتها الإستثنائية لتعيد تفريخ ديكتاتوريات بغطاء ثوري).