للمبدأ الحاكم في أي نظام تفاصيله ومظاهره الحاضرة التي يمكن تمييزها وقراءتها لكونها حاكمة له، دونه لا يستوِّ، لا من حيث القوة ولا التأثير. ولأن المبدأ الحاكم في بناء وسيرورة "الكيان/النظام الصهيوني" هو السيطرة على "الزمان" و"المكان" الفلسطينيين، بين فعلين: الإحتلال والإحلال، أي إخراج الفلسطيني من زمانه ومكانه بعد إحتلالهما، وإحلال جماعات يهودية مغايرة، بتفاصيل زمنها (الأساس في تعريفها الذاتي لجماعتها المتخيلة) في مكانه.
ولعل هذا ما يتبدى عضوياً في تفاصيل نظام الحركة في الفضاء الإسرائيلي (المديني)، وتمثيل الذات والآخر فيه، فهو قائم على أربعة عناصر للتحكم والمنع والرقابة: إستيطان/توسع/تحول إثني (أثننة)/سيطرة. ويخطيء من يظن أن تلك العناصر تنتج فقط "المستوطنات" كنتاج نهائي للإحتلال، أو حتى "منظومة الفصل العنصري" المتمثلة في جدار الفصل، أو حتى في السيطرة على الحدود. تلك العناصر الحيوية في داخل بنية عملية "الإحتلال و الإحلال" الزمانية والمكانية، يمتد تأثيرها ومظاهرها إلى ما يبدو كأنه مواجهات مع النظام نفسه.
فلننظر مثلًا إلى مواجهات المتظاهرين ضد مشروع قانون برافر- بيغين الأخيرة، وفي حيفا تحديدًا حيث أنه من الملاحظ أن قوات الإحتلال كانت تكثف من ضرباتها واعتداءاتها على المتظاهرين/ات فقط إذا دخلوا الحيز الزماني والمكاني المراد إحلال الدولة الحداثية الإسرائيلية فيه، فكانت هناك محاولات لدفع المتظاهرين/ات إلى داخل منطقة "وادي النسناس" باتجاه حي "الصليب" بحيفا، وهو الحي العربي الحيفاوي القديم/ ماقبل الإحتلال ببنيته الحداثية (هو أحد الأحياء المُهجرة من سكانها والذي ما زال قائمًا حتى اليوم دون أن يقطنه أحد) والدفع بالمتظاهرين/ات إلى ذلك الحيز المكاني من المدينة لا يعد فقط تفصيلًا ميدانيًا محكوم بالمواجهة، فجيش الإحتلال الذي يستمد بنية عمله من المبدأ الحاكم للمنظومة الصهيونية، إنما يقوم بذلك ليدفع المتظاهرين/ات إلى الحيز المكاني الفلسطيني المهجّر من المدينة وهو الحيز الواقع خارج المنظومة الحداثية للدولة الإسرائيلية، وبالتالي فهو "خارج" عن الزمن الصهيوني، باعتبار أن الفلسطيني/العربي هو متخلف وخارج منظومة الحداثة و التقدم العالمية/ الرأسمالية في صورتها الإسرائيلية (المتفردة في منطقة القمع و التخلف العربي، كما يسوق الصهاينة لدولتهم)، وبالتالي فإن الدفع بالمتظاهرين/ات إلى هذا الحيز الزماني/المكاني الفلسطيني يجعل المتظاهرين/ات خارجين عن الزمان و المكان الإسرائيليين، أي منفيين، مما يضمن لللقوات الإسرائيلية درجة من التوحش أعلى من تلك في الزمان والمكان المؤسرل الحداثي الذي يدعي المدنية والتحضر في سياقها الرأسمالي، وبالتالي فلن يدع -الإحتلال- المواجهات بينه وبين المتظاهرين/ات الفلسطينيين/ات تحدث في الحيز الرأسمالي المديني في منطقة المقاهي، ولا بالقرب من مقابر البهائيين. ولعل الشعب الفلسطيني بوقوعه في حالة من المواجهة الدائمة مع النظام الإسرائيلي باتت ذاكرته أقوى وأكثر فاعلية في تفكيك وتركيب تفاصيل المواجهة، فكان المتظاهرون/ات في مواجهات حيفا الأخيرة قادرين تماماً على إستيعاب درس المكان والزمان في مواجهة قوات الإحتلال، من تجارب سابقة مثل مظاهرات قرية "عرعرة" (أغسطس/آب الماضي) في المثلث، شمال فلسطين المحتلة، حيث كانت القوات الإسرائيلية متوحشة في مواجة الزمان والمكان الفلسطينيين في ذلك الحيز المديني العربي الغير مختلط، وصل بهم الأمر إلى قصف ساحات البيوت و المنازل.
ما يمكننا التأكيد عليه هنا، أن المواجهات التي تراكمت وصولًا إلى أحداث "يوم الغضب" 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ضد مشروع برافر – بيغين (فلنتذكر أن بيغين شريك السادات في إرساء "ثقافة السلام" عربياً، لذا علينا دوماً استحضاره) لا يجب أن تتعامل كأن المعنيين مباشرة بذلك المشروع هم فلسطينيو النقب (بدو النقب) وحدهم، لأن بنية الجسد الاستعماري (الإحلالي) ومجتمعه الإستيطاني يقومان على هدفين أساسيين: الأرض والديموغرافيا. وبالتالي بات البدو يشكلون عائقًا كبيرًا للنظام "الإثنوقراطي الإسرائيلي"، وأمام نهم المؤسسة الاستيطانية لتهويد كامل الفضاء الفلسطيني، والقضاء على عروبته كما حدث مع وادي الصليب والأحياء العربية من حيفا ويافا وعكا والقدس وغيرها من الأمكنة والأزمنة الفلسطينية، فقد اتحدت البنية الاستيطانية مع البنية الحداثية المتوحشة للدولة (بعد نكبة 1948) ضد الفرد والإنسان الفلسطيني، فكان صَك مسمى "بدو النقب" وليس "مجتمع بدو النقب"، وما أدّى إليه ذلك من قطع الروابط التاريخية والاجتماعية التي لطالما ربطت ذلك المجتمع بامتداده العضوي في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسيناء المصرية، وباقي الجماعة الفلسطينية في الأراضي المحتلة (لاحظ صمت السلطة الفلسطينية على المشروع). وبالتالي فإن استخدام هذا المصطلح يأتي ضمن أدبيات الخطاب الصهيوني في التعامل مع الهوية الفلسطينية ضمن إستراتيجيات التجزئة، التي تضمن إنتاج "حقيقة" خاصة بالسلطة، يمكن زرعها تدريجاً في عقل المستعمَر، فيتم تفريخ متعدد لنفس الذات الفلسطينية: فلسطيني درزي، فلسطيني مسيحي وفلسطيني بدوي، وصولاً إلى "فلسطيني إسرائيلي" (لاحظ محاولات دمج المسيحين و قبلهم الدروز والبدو في مؤسسات النظام و أولها خطوط المواجهة لكسر تعريف الجماعة المتخيلة لنفسها) وبشكل مواز له "فلسطيني محب للسلام".
وعلينا لمواجهة الإحتلال، علينا مواجهة كامل بنى المنظومة الإحتلالية/الإحلالية وليس فقط التعامل معها إنتقائياً أو بالتجزئة، فلا يجب تقديم المجتمع البدوي في مراوحته الدائمة في مقاومة هذا المشروع وما سبقه على أنها رديف لمقاومة التحديث والتنمية كما تدعي الدولة الحداثية الإسرائيلية الرأسمالية، وهو ما توضحه الإثنية الإحلالية الفاضحة في بنية التنمية الحداثية استيطانياً في كامل المدن الفلسطينية (باعتبارها فضاءات عامة)، إذ يقول وزير الإسكان زئيف بويم، في بئر السبع في الرابع من حزيران (يونيو) 2006:
"ما نطلبه منكم بسيط: فقط أن تلتزموا بالقانون، إذا فعلتم ذلك، فكل فرد سيستفيد: ستكون لكم مدن مخططة جيداً وذات خدمات جيدة ومعترف بها. وسوف نحتفظ بآخر قطع الأرض الفارغة من أجل الشعب اليهودي في كل أنحاء العالم"
وهو ما يؤكد مقولة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.