بوجه شاحب رسمت تجاعيده صورة تشبه قسوة الحياة، وبعينين يتطاير منهما شرر غضب لم يعد ممكناً كتمانه، وبيد مرتجفة تقبض على عكاز تساعده في المشي وسيجارة لا تنطفئ أبداً، كان المخرج اللبناني كريستيان غازي يتنقّل بين مقاهي شارع الحمرا بحثاً عن أصدقائه السوريين والفلسطينيين الذين اعتاد في آخر أيامه أن يتقاسم معهم ساعات طويلة من الأحاديث الثقافية والسياسية. ولن تنتهي له جلسة معهم من دون أن يتوّجها بتسليته المفضلة «برتية طاولة زهر».
رغم الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية في سوريا والتشرد والنزوح، إلا أنها كانت بالنسبة إلى صاحب «مئة وجه ليوم واحد» في ضفة مقابلة فرصة للقاءات ودودة مع أصدقاء جدد هربوا من ويلات الحرب. في أحد مقاهي الحمرا، كان يروي تاريخاً مليئاً بالذكريات أمام جمهور متحمس ينتظره يومياً ويتفقده عندما يغيب. قصة انضمامه إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» عام 1968 كان لها حضور خاص في جلساته. عندما سأله أحد أصدقائه الفلسطينيين: «ماذا ستفعل يا «كريستيانو» لو عاد بك الزمن ومرت الأحداث ذاتها التي عشتها وأين ستكون الآن؟». لم يتردد صاحب «نعش الذاكرة» في الإجابة: «سأعيش حياتي كما عشتها تماماً، وسأقف في الجانب الذي وقفت فيه وسأكون هنا معك ألعب النرد كما أفعل الآن. لكنني كنت سأبذل جهداً إضافياً في مكان ما كي أحمي أفلامي التي حرقتها الميليشيات المسلحة في الحرب الأهلية واستخدموها وسيلة للدفء». تملأ الغصة صوته في الجملة الأخيرة وتغرق عيناه الغاضبتين في الدموع. يقول أحد أصدقائه الذي يصغره بثلاثين عاماً على الأقل إنه كان يتحاشى الكلام على السينما في المقاهي لأنه كان يتمنى مشاطرة الآخرين هموم حياتهم وتفاصيلهم اليومية وكيف يمكن ترجمتها في «روح المدينة»، أي المقهى كما كان يسميه مجازاً. الوحدة كان تثقل كاهله وترهق شيخوخته، لذلك كان مواظباً بدوام شبه كامل في المقاهي والبارات البيروتية، يدخن من دون انقطاع ويشرب من دون أن يثمل ولا يمكن أحداً أن يجالسه إلا ويعشق حضوره.
كان يتقصّد اللطف الزائد مع سيل المشردين والمتسولين الذين يمرون بالمقاهي طالبين المساعدة. عندما انقطع في الأسابيع الأخيرة عن ارتياد الأماكن العامة بسبب سوء وضعه الصحي، قدّر الأصدقاء أنه لم يعد يقوى على جلسات المقاهي وصار حرياً بهذا المحارب القديم أن يستريح. لكنهم ظلوا يستبعدون فكرة رحيله كأنه أوحى لهم بأن جعبته لا تفرغ أبداً.